قائمة المدونات التي اتابعها

السبت، 3 نوفمبر 2012

اللهجات العربية لمحو اللغة اوسيلة من وسائل الترابط والوحدة

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
اللهجات العربية لمحو اللغة اوسيلة من وسائل الترابط والوحدة
 
إن القرآن الكريم هو الذي وحَّد اللهجات العربية في بوتقة واحدة , فتحصنت اللغة العربية , ثم جاء المغول ليخنقوها , وقذفوها في مياه دجلة , إلا أنها لم تختنق ولم تغرقها مياه دجلة العارمة , فهبت اللغة العربية منتصبة على قدميْها .
وجاء ( نابليون ) يريد محوها ودفنها , فلم يستطع وأعلنت العربية عن وجودها .
وجاءت حركة ( الاتحاد والترقي ) في العهود الأخيرة من عمر الخلافة العثمانية , يريدون الكيد منها , فباءوا بالفشل الذريع .
وعقدت مؤتمرات ( باريس ) لمحو اللغة العربية من أرض الجزائر , فما استطاعوا أن يطفئوا نار حقدهم , هذه اللغة العظيمة , أي شيء أكسبها هذا الخلود والبقاء , لا شك
ولا ريب إنه كتاب الله ( القرآن الكريم ) .
ولهذا نفهم كلام العرب الذي قالوه قبل عشرات القرون , بينما الفرنسيون والإنكليز وغيرهم لا يستطيعون أن يفهموا ما كُتب قبل أربعمائة عام , إلا بجهد جهيد , وبالاستعانة بالمعجمات لحل غموض اللغة التي يسمونـها ( الكلاسيكية ) أو ( القديمة ) بعد أن تغيرت قواعدها , على عكس العربية .
لقد أكد القرآن الكريم حقيقة عروبته في آيات كثيرة , منها قوله تبارك وتعالى :
(إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)[1] , وقوله :(ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون، قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون)[2], وقوله أيضاً :(كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون)[3].
ومع تأكيد القرآن هذه الحقيقة فقد نفى أن يكون فيه لسان غير عربي .
قال الإمام الشافعي :
( فأقام [ الله سبحانه وتعالى ] حجته بأن كتابه عربي في كل آية ذكرناها , ثم أكد ذلك بأن نفى عنه ـ جل ثناؤه ـ كل لسان غير لسان العرب في آيتين من كتابه )[4]:
فقال الله تعالى :(ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين)[5], وقال الله تعالى :(ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي)[6].
فالقرآن الكريم لم يخرج من مألوف العرب في لغتهم العربية , من حيث المفردات والجمل, فمن حروفهم تألفت كلماته , ومن كلماته ركبت جمله , ومن قواعدهم صيغت مفرداته, وتكونت جمله , وجاء تأليفه , وأحكم نظمه , فكان عربياً جارياً على أساليب العرب وبلاغتهم , ولكنه أعجزهم بأسلوبه وبيانه ونظمه الفذ , إلى جانب نفوذه الروحي , وأخباره بالغيوب , ومعانيه الصادقة , وأحكامه الدقيقة العادلة , والصالحة للتطبيق في كل زمان ومكان , وهو الكتاب الوحيد الذي تحدى منزله ـ جل جلاله ـ البشر كافة أن يأتوا بمثله .
كما يجب علينا أن نلاحظ أن القرآن الكريم , لم يعبر بكلمة (لغة) , وإنما عبر بـ(اللسان) بمعنى اللغة .
قبل نزول القرآن الكريم كان العرب يتكلمون اللغة العربية بالسليقة والسجية , فصيحة معربة , سليمة من اللحن والاختلال , ولم تكن لها قواعد مدونة , والنحو المدون لم يظهر حتى ظهر نور الإسلام , ونزل به القرآن , فخرج جيل الفتح الأول داعين إلى توحيد الله, مبشرين بدينه , حاملين كتابه بلسان عربي مبين , فانتشرت العربية بانتشار الإسلام , وكتب العلماء المسلمون من غير العرب أكثر من علماء العرب , وبذلك أصبحت العربية عالمية مقدسة , ومنتشرة في كثير من أقطار الأرض .
لقد كان للغة العربية ـ بفضل الإسلام ـ أنصار ومحبون من غير العرب, وكان لها منهم علماء وأعلام عرَّبـهم الإسلام , حتى كان منهم أصحاب المؤلفات الرائعة , في قواعد اللغة العربية وفي بلاغة القرآن الكريم.
بل إن أعظم كتاب في النحو العربي هو كتاب سيبويه الفارسي .
ومن أعظم كتب العربية وفقهها (الخصائص) لأبي الفتح عثمان بن جني الرومي اليوناني.
وأشهر وأوثق مرجع لغوي في العربية (القاموس المحيط) لأبي طاهر محمد بن يعقوب الشيرازي الفيروزابادي وهو هندي .
وأشهر كتب إعجاز القرآن الكريم وأفضلها , مؤلفوها من غير العرب , نذكر منهم :
أحمد بن محمد الخطابي البستي الأفغاني.
وأبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني.
وعبد القاهر ابن عبد الرحمن الجرجاني.
وغيرهم كثير , ألفوا الكتب في مختلف الدراسات القرآنية, وفروع العربية وآدابها[7].
وهكذا صاروا مضرب الأمثال ,حتى أصبحنا إذا أردنا مدح أحد من علماء العرب , ألحقناه بأحدهم وشبهناه به فقلنا : فلان سيبويه عصره , أو زمخشري زمانه .
لقد أصبحت اللغة العربية , لغة الدين الحق الذي يؤمن به مئات الملايين من الناس خارج الوطن العربي , ويغارون عليها , ويفضلونها على لغاتهم الأولى , ويرون أنها أفضل اللغات وأحقها بالحياة , وهي أقوى وسيلة من وسائل الترابط والوحدة بين العرب أنفسهم , وبينهم وبين المسلمين الذين يتكلمون بها في البلاد الإسلامية , وهي أقوى من رابطة النسب والدم , لأن الدم لا يمكن استصفاؤه بسبب التصاهر والتزاوج , والعربية بما تحمله من رسالة هذا الدين وكتابه , هي أساس العلاقات الحضارية والثقافية والاجتماعية بين العرب والمسلمين , بها تتوحد أساليب التفكير والتعبير , ويمكن التفاهم والتعاون على البر والتقوى , ونصرة الإسلام , وهي الحصن الحصين الذي يحول دون احتلال عقول أبنائها بآراء وأفكار وافدة .
ولقد بلغ من حب السلف الصالح للغة العربية , وإعجابهم بعبقريتها , أن قال أبو الريحان البيروني :
(والله لأن أُهجَى بالعربية أحب إلي من أن أمدح بالفارسية)[8].
تلك من بعض حكمة الباري ـ جل جلاله ـ الذي أرسل كل رسول بلسان قومه , ولغة أمته التي بعث إليها , لدعوتها إلى الله باللسان الذي تفهم به وليكون لبيان الرسول أثر وتأثير , قال الله تبارك وتعالى :(وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) [9] .
ولما كانت رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم خاتمة وعامة , فقد وجب على جميع الناس والأمم الإيمان به واتباعه , ولا يكمل دين المرء إلا بتلاوة شيء من الكتاب العربي الذي أنزله الله تعالى , مما يجعل لغته لغة أتباعه وأمته , وأمة العروبة ليست أمة بالنسب والدم فقط , وإنما من تكلم العربية فهو عربي اللسان والثقافة والانتماء , وقد كان العرب يقولون : كل من سكن بلاد العرب وجزيرتـها ونطق بلسان أهلها ، فهم عرب[10].
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : جاء قيس بن مطاطية إلى حلقة فيها صهيب الرومي وسلمان الفارسي وبلال الحبشي , فقال : هذا الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل , فما بال هؤلاء ؟
فقام معاذ بن جبل , فأخذ بتلابيبه ثم أتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بمقالته , فقام النبي صلى الله عليه وسلم مغضباً يجر رداءه , حتى دخل المسجد ثم نودي : إن الصلاة جامعة , فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد :
أيها الناس إن الرب رب واحد , والأب أب واحد , والدين دين واحد , وإن العربية ليست لأحدكم بأب ولا أم , إنما هي لسان , فمن تكلم بالعربية فهو عربي , فقام معاذ بن جبل فقال : بم تأمرنا في هذا المنافق ؟
فقال : دعه إلى النار , فكان قيس ممن ارتدَّ فقتل في الردة[11].
إذن العربية ليست بالولادة ولا بالنسب والسلالة , وإنما بالكلام , فمن تكلم العربية فهو عربي !
ولذلك استطاعت العربية أن تجمع تحت رايتها أمماً وأنساباً وأعراقاً ودماء شتى ممن يدينون بالإسلام .
ثم إن علوم العربية الرئيسية , وهي علم اللغة والنحو والصرف والبلاغة بأقسامها الثلاثة , الفضل الأول في نشأتها ونموها واستمرارها يرجع إلى القرآن الكريم , وحرص المسلمين الشديد على المحافظة عليه , والدفاع عنه , وبيان إعجازه , ولما فزع العرب من انتشار اللحن في العربية , هبّوا لتقنين العربية بابتكار النحو لدرء الخطر عنه , وتعليم الداخلين في الإسلام العربية مقعّدة ومبوَّبة , ثم كان ابتكار نقط الإعراب الذي تطور إلى الشكل المعروف(الفتحة والكسرة والضمة والسكون ) .
ولقد اشترط علماء الإسلام على من يريد تفسير القرآن الكريم , أن يكون واسع العلم بالعربية وأساليبها وعلومها وعلوم الإسلام التي منها علوم القرآن , لاستنباطها منه , ونشأتها في رحابه , واستمرار الحياة لها بحفظه , قال مجاهد : (لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر , أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالماً بلغات العرب)[12].
وقال الإمام مالك :(لا أوتى برجل غير عالم بلغات العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالاً )[13].
وقال الإمام الشافعي : ( فإن قال قائل : ما الحجة في أن كتاب الله محض بلسان العرب لا يخلطه فيه غيره ؟
فالحجة فيه كتاب الله , قال الله تعالى :(وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه)[14].
فإن قال قائل : فإن الرسل قبل محمد كانوا يرسلون إلى قومهم خاصة , وإن محمد بعث إلى الناس كافة , فقد يحتمل أن يكون بُعث بلسان قومه خاصة , ويكون على الناس كافة أن يتعلموا لسانه وما أطاقوا منه , ويحتمل أن يكون بُعِث بألسنتهم , فهل من دليل على أنه بُعث بلسان قومه خاصة دون ألسنة العجم ؟؟
فإن كانت الألسنة مختلفة بما لا يفهمه بعضهم عن بعض , فلا بد أن يكون بعضهم تبعاً لبعض , وأن يكون الفضل في اللسان المتبَّع على التابع , وأولى الناس بالفضل باللسان , مَن لسانُه لسان النبي , ولا يجوز _ والله أعلم _ أن يكون أهل لسانه أتباعاً لأهل لسان في حرف واحد , بل كل لسان تبع للسانه , وكل أهل دين قبله عليهم اتباع دينه , وقد بيَّن الله ذلك في أكثر آية من كتابه , قال الله تعالى :(وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين) [15] وقال:( وكذلك أنزلناه حكماً عربياً)[16] ، وقال :(وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها)[17].
وقال الشافعي أيضاً : ( وإنما بدأت بما وصفت من أن القرآن نزل بلسان العرب دون غيره , لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب , وكثرة وجوهه , وجماع معانيه وتفرقها , ومن عَلِمَه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها)[18].
واللغة العربية أيضاً , لغة الغنى والثراء والسعة , قال الإمام الشافعي : (لسان العرب أوسع الألسنة مذهباً , وأكثرها ألفاظاً , ولا نعلمه يحيط بجميع علمه نبي , ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها حتى لا يكون موجوداً فيها )[19].
فلا يمكن لأحد إحصاء جميع الألفاظ العربية , مهما بلغ في اللغة شأواً بعيداً , وفي اللغة العربية كثير من الأسماء لمسمى واحد , كأسماء الأسد والحية والعسل , وممن ألف في المترادف , العلامة مجد الدين الفيروز أبادي صاحب ( القاموس ) , ألف فيه كتابا سماه : ( الروض المسلوف فيما له اسمان إلى ألوف ) , وأفرد خلقٌ من الأئمة كتباً في أسماء أشياء مخصوصة , فألف ابن خالويه كتاباً في ( أسماء الأسد ) , وكتاباً في ( أسماء الحية ), ذكر أمثلة من ذلك ( العسل ) له ثمانون اسماً , أوردها صاحب ( القاموس ) في كتابه الذي سماه : ( ترقيق الأسل لتصفيق العسل)[20].
والعجب كل العجب من أولئك الذين يشكون من فقر اللغة العربية , وعجزها عن مواكبة العصر , والتطوُّر العلمي الهائل , ولله در الشاعر العربي حافظ إبراهيم , الذي قال على لسان العربية :
كما أن اللغة العربية لغة اشتقاقية , تقوم على أبواب الفعل الثلاثي , لذلك فإن خزائنها من المفردات يمكن أن تزداد دائماً , وكل الكلمات المشتقة من أصل ثلاثي معها المعنى الأصلي , بخلاف غيرها من اللغات , فالاشتقاق من أبرز هذه اللغة وخصائصها , وهو ثابت عن الباري سبحانه وتعالى .
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه , أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : ( أَنَا الرَّحْمَنُ , خَلَقْتُ الرَّحِمَ , وَشَقَقْتُ لَهَا مِنْ اسْمِي اسْمًا , فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ , وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ)[21].
وعدد الألفاظ المستعملة من اللغة العربية , خمسة ملايين وتسعة وتسعون ألفاً و أربعمائة لفظ , من جملة ستة ملايين وستمائة وتسعين ألفاً وأربعمائة لفظ , بينما نجد غيرها من اللغات الأوربية لا يبلغ عدد مفرداتها معشار ما بلغته مفردات العربية[22].
واللغة العربية لغة الفصاحة والبيان ، قال الفارابي في (ديوان الأدب):
(هذا اللسان كلام أهل الجنة ,وهو المنـزه من بين الألسنة من كل نقيصة , والمعلى من كل خسيسة , والمهذب ما يستهجن أو يستشنع , فبنى مباني باين بها جميع اللغات من إعراب أوجده الله له , وتأليف بين حركة وسكون حلاَّه به , فلم يجمع بين ساكنَيْن , أو متحركَيْن متضادَّيْن , ولم يلاق بين حرفَيْن لا يأتلفان ولا يعذب النطق بهما أو يشنع ذلك منهما في جرس النغمة وحس السمع , كالغين مع الحاء , والقاف مع الكاف , والحرف المطبق مع غير المطبق , مثل تاء الافتعال ,و الصاد مع الضاد في أخوات لهما , والواو الساكنة مع الكسرة قبلها , والياء الساكنة مع الضمة قبلها , في خلال كثيرة من هذا الشكل لا تحصى )[23].
واللغة العربية ناضجة , ومرنة , وينطبق هذا على نحوها ومفرداتها وتراكيبها وسماتها الدلالية , فلا يكون المتكلم بالعربية ملزماً بترتيب عقيم للكلمات , كالمتكلم بالإنكليزية , فإنه يتبع ترتيباً معيَّناً : ( فاعل _ فعل _ مفعول به ) , فإذا أردت أن تقول : ( أكل زيد لحماً ) يجب أن يكون الترتيب : ( زيد أكل لحماً ) , ولا يجوز أن تقول : ( أكل زيد لحماً ) ولا ( لحماً أكل زيد ) ولا ( أكل لحماً زيد ) , بينما يجوز في اللغة العربية أن تقول كل هذه الصيغ , وذلك لوجود علامات الإعراب التي تلحق أواخر الكلمات , وتميز الفعل من الفاعل والمفعول به , ونظام الإعراب هذا يدل على المرونة التي تتميز بها اللغة العربية .
وللغة العربية تأثيرها الفعَّال في اللغات الأوربية , كالإسبانية مثلاً , فإنه يوجد في اللغة الإسبانية ما يزيد على / 2500 / كلمة من أصل عربي , ومعظم الكلمات الإسبانية المبدوءة بأل هي من أصل عربي , وكثير من المصطلحات العلمية الأوربية هي من أصول عربية وضعها العرب , وبقيت في تلك اللغات دون أن يكون لها مرادفات لاتينية أو إسبانية .
وإذا قابلنا اللغة العربية بلغات العالم الأخرى , لوجدناها أنها اللغة السادسة من حيث عدد المتكلمين بها , كما أنها اللغة الأكثر انتشاراً في أفريقيا وغرب آسيا , لكونها اللغة الدينية لأكثر من مليار مسلم .
لقد خاضت اللغة العربية صراعات عنيفة في القرون الأولى للإسلام , وانتصرت عليها , وحلت محلها في ميادين الدين والأدب والعلم , وكادت أن تتعرب الشعوب الإسلامية كلها , إلا أنها لاقت صعوبات جمة من الشعوبية التي تعادي العرب , وتحتقر آدابهم , من أولئك الذين لم يتمكن الإسلام من نفوسهم , حتى تركت اللغة مكانها في مواطن كثيرة من أرض الإسلام , وها هو الشاعر العربي المتنبي , حينما مرَّ بشِعب بَوَّان[24] من أرض فارس ( إيران ) , أحسَّ بغربة اللسان والانتماء والوجود فقال :
ولكن العربية بقيت لغة الدين الإسلامي , وعلماء العربية يحرصون عليها ويدافعون عنها , ويتضح ذلك في قول أبي القاسم محمود الزمخشري الخوارزمي , في مقدمة كتابه (المفصل):
( اللهَ أحمد على أن جعلني من علماء العربية , وجبلني على الغضب للعرب والعصبية , وأبى لي أن أنفرد عن صميم أنصارهم وأمتاز , وأنضوي إلى لفيف الشعوبية وأنحاز , وعصمني من مذهبهم الذي لم يجد عليهم إلا الرشق بألسنة اللاعنين , والمشق بأسنة الطاعنين )[26].
ولا شك أيضاً أن القرآن الكريم بانتقاله مشافهة متواترة , حفظ للعربية أصوات حروفها , وضبط لها مخارجها وأحكام نطقها , وقامت بين اللغة العربية والإسلام صلات وصلات يكثر تعدادها , ويصعب حصرها , فلا إسلام بلا قرآن , كما أنه لا قرآن بغير اللغة العربية , وليس صادقاً في ادّعائه القومية العربية , من لم يدْعه إخلاصه للغة العربية , وصدقه في حبها , إلى العناية بالقرآن الكريم وهو كتابها الأكبر , ونموذج أدبها المعجز , إنه منها صوته وصورته .
ولقد دوَّت أبواق الباطل في كل مكان , رافعة عقيرتها , وناعقة بالتمرد على اللغة العربية و تفتيتها وتمزيقها ـ والهدف هو القضاء على القرآن ـ لأن القرآن عربي , والعربية لغة القرآن, وارتباط كتاب سماوي منزَّل بلغة بعينها , أمر لا يعرف إلا لهذا الدين وهذه اللغة العربية وقد قال الله تبارك وتعالى :( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[27].
لقد شدَّ الإسلام أقواماً غير عرب إلى لغة العرب , ونشر اللغة العربية في بلاد لم يكن لها فيها نصير, ولا للعرب فيها سلطان , ولقد خرجت اللغة العربية من جزيرة العرب مع الفتح الإسلامي فإذا هي لغة أهل الشام والعراق ومصر وغيرها , وإذا بها تتعدَّى كونها لغة دين إلى لغة شعب ودولة .
ولا زال للإسلام أثره في نشر اللغة العربية , والحفاظ عليها في بلاد غير عربية , وأثره يفوق كثيراً آثار المراكز الثقافية التي نراها اليوم منتشرة في بلدان العالم , ثم إن أصحاب هذه المراكز, ينفقون الأموال الطائلة في سبيل الدعاية لمراكزهم وثقافتهم ونشر لغتهم , على حين أن الإسلام يجعل من البلاد التي ينتشر فيها , شعوباً راغبة في تعلم لغته , وما أكثر ما نسمع أصواتاً ترتفع في تلك البلاد , مطالبة بإرسال المدرسين العرب لتعليم اللغة العربية , أو مطالبة بقبول أبنائها في مدارس البلاد العربية , ليتعلموا اللغة العربية .
لقد استهوى الإسلام أقواماً فحبب إليهم لغته , بل كان الفضل عظيماً للإسلام في ظهور عدد لا يحصى من العلماء غير العرب , الذين بلغوا القمة في لغة العرب وعلومها من نحو وصرف وبلاغة, وهذا سيبويه , يقسم ليطلبنَّ علماً يزيل عنه اللحن , فانصرف إلى طلب النحو , ولم يكن من غرضه وقصده تعلم اللغة العربية , وإنما كان يريد علماً يفقهه في الدين .
فقد رووا أن سبب تعويله على الخليل في طلب النحو مع ماكان عليه من الميل إلى التفسير والحديث , فإنه سأل يوماً حماد بن سلمة فقال له :
أحدثك هشام بن عروة عن أبيه في رجل رعُف في الصلاة ( بضم العين ) ؟
فقال لـه حماد : أخطأتَ إنما هو رعَف ( بفتح العين ) , فانصرف إلى الخليل فشكا إليه ما لقيه من حماد
فقال لـه الخليل : صدق حماد ، ومثل حماد يقول هذا , ورعُف بضم العين لغة ضعيفة .
وقيل : إنه قدم البصرة من البيداء من قرى شيراز من عمل فارس , وكان مولده ومنشؤه بـها, ليكتب الحديث ويرويه فلزم حلقة حماد بن سلمة, فبينما هو يستملي على حماد قول النبي صلى الله عليه وسلم :
ليس من أصحابي إلا من لو شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء .
فقال سيبويه : ليس أبوالدرداء ( بالرفع ) وخمنه اسم ( ليس )
فقال لـه حماد : لحنت يا سيبويه , ليس هذا حيث ذهبت , إنما ( ليس ) ههنا استثناء
فقال سيبويه : سأطلب علماً لا تلحنني فيه, فلزم الخليل وبرع في العلم[28].
لقد خرجت لغة الدين الحق الذي يؤمن به الملايين من الناس , خارج وطنها الأصلي, ويغارون عليها, ويفضلونها على لغتهم الأولى, ويرونـها أفضل اللغات , وأحقها بالحياة, خرجت إلى الدنيا, وأصبحت عالمية مقدسة, لأنـها لغة القرآن الكريم, وهي من أقوى وسائل الترابط بين العرب والمسلمين , لذلك استطاعت اللغة العربية أن تجمع تحت رايتها أمماً وأنساباً وأعراقاً ودماء شتى ممن يدينون بالإسلام .
خرجت لغة العرب من لغة قوم إلى لغة أقوام , ومن لغة محدودة بحدود أصحابـها , إلى لغة دعوة جاءت إلى البشر كافة , فكانت لسان تلك الدعوة , ولغة تلك الرسالة , ومستودع ما نتج من تلك الرسالة من فكر وحضارة .
لقد عرف العرب كمال لغتهم في القرآن الكريم فاجتمعوا عليه , وأجمعوا على إعجازه , ولو لم يجتمعوا عليه لزاد ما بين لهجاتـهم من تباين واختلاف , ولازدادوا بُعداً عن فصاحة لسانـهم ووحدة لغتهم , تلك الوحدة اللغوية هي التي نزل القرآن فرسخها وأرسى قواعدها , ولو لم يوطد القرآن لهذه اللغة الموحدة أسبابـها , ويرسخ لها بنيانـها, لكان لها من لهجاتـها القديمة والحديثة وما تتأثر به من عوامل مختلفة , لغات ولغات .
ومما لا شك فيه أيضاً أن القرآن الكريم بانتقاله مشافهة ومتواترة , حفظ للغة العربية أصوات حروفها, وضبط مخارجها وأحكام نطقها , فحرف الجيم مثلاً في الشام غيرها في مصر , ولكن إذا رتَّل الشامي والمصري القرآن الكريم عاد الحرف إلى مخرجه الأصلي الصحيح , وأداه بصفاته وأحكامه .
لقد قامت بين اللغة العربية والإسلام صلات وثيقة يكثر تعدادها , ويصعب حصرها , فلا إسلام بلا قرآن , ولا قرآن بغير اللغة العربية , والعربية أقرب الطرق الموصلة إلى فهم الإسلام, وإدراك معانيه ومقاصده من منابعه العربية الأصيلة .
لذا لما أدرك الأذكياء من أعدائنا , أعداء العرب والمسلمين , أن الإسلام اتخذ العربية لساناً له, راحوا يصبون جام غضبهم وحقدهم على الإسلام وذلك بالطعن في اللغة العربية , يريدون أن يهدموا الجسر المؤدي بأهلها إليه , فكم من سهم وُجِّه إلى العربية ولا يراد به إلا الإسلام .
يقول الحاكم الفرنسي في الجزائر بمناسبة مرور مائة عام على احتلالها :(يجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم .... ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم, حتى ننتصر عليهم)[29].
إنـهم لا يرون الخطر الحقيقي إلا في الإسلام , لأنه لا يوجد مكان على وجه الأرض
إلا وقد اجتاز الإسلام حدوده وانتشر فيه , فهو الدين الوحيد الذي يميل الناس إلى اعتناقه , ومنذ أن ظهر في مكة لم يضعف عددياً , بل إن أتباعه يزدادون باستمرار .
إن الاستعمار بعد أن يئس أن تكون لـه ركائز في أرضنا , فكَّر وقدَّر , فقتل كيف قدَّر, ثم نظر, ثم تقدَّم وتطوَّر , واقتنع أن تكون له ركائز في أفكارنا , ووجد ذلك أسهل عليه وأخفى علينا, وأخذ يبثُّ سمومه وأفكاره , كلام في ظاهره الحرص على الإصلاح , ومن باطنه الحقد المتسعِّر والبغض الدفين .
وواجب العقلاء والمفكرين وحملة الأقلام المؤمنة , أن يؤدوا لهذه الأمة حقها من حصيلة عقولهم وأفكارهم وأقلامهم , إن لكل شيء زكاة , وزكاة العقل والفكر والقلم أن يقول كلمة الحق ويظل مرابطاً يتصدَّى للباطل , وإذا جاهد من يستطيع الجهاد بالنار والحديد , أو بالمال والعتاد, أفلا يجاهد صاحب الفكر والقلم بكلمة حق يقولها ؟ !
إن ضياء كلمة الحق ليس بأضأل من وهج الدماء المتدفقة من جروح الشهداء .
ثم إن الإقلال من ساعات تدريس القرآن الكريم في مدارسنا , سهم مسموم, موجَّه إلى اللغة العربية, قبل أن يكون سهماً إلى العقيدة الإسلامية , لذلك نرى طفل اليوم يتجاوز المرحلة الابتدائية والإعدادية والثانوية , ثم يأخذ مكانه في مدرجات الجامعة وهو لا يزال يتعثر العثرات المتوالية في تلاوة القرآن الكريم , ولأجل هذا كله أخذ مستوى إتقان اللغة العربية, وتذوق آدابها ينحط تدريجياً في مختلف مراحل الدراسة[30].
إن الذين لا يولون القرآن كبير عناية , في عروبتهم نقص كبير , فبين العربية والقرآن أواصر لا تقطع, وصلات لا تدفع, ولا يطعن في العربية باسم الإسلام إلا شعوبي , ولا يطعن في الإسلام باسم العربية إلا جاهل أو غبي .
هذه اللغة العربية الخالدة والمشرقة , أي شيء أكسبها هذا الخلود وهذا الإشراق ؟
لا ريب أن كل عربي سواء كان مسلماً أو غير مسلم , وكل مسلم عربياً كان أو أعجمياً, يعلم الجاذبية التي سرت في هذه اللغة , فأكسبها الديمومة والبقاء , هذه الجاذبية والروح الجبارة هي القرآن الكريم, إنه قطب الرحى للأمة الإسلامية .
إن القرآن الكريم قد مدَّ سلطان اللغة العربية على منطقة من أوسع مناطق الدنيا , واخترق بها قارات ثلاثاً هي : آسيا وأفريقيا وأوربا ( الأندلس ), وجعل العربية هي اللغة العالمية المشتركة المنشودة , فكل مسلم يشعر أن العربية لغته لأن القرآن قد نزل بـها .
   dr. Sajid Sharif Atiya  سجاد الشمري 

المصادر والهوامش …………
 
1 ـ يوسف : 2 .
2 ـ الزمر : 27 .
3 ـ فصلت : 3 .
4 ـ الرسالة للإمام الشافعي : 1 / 47 .
5 ـ النحل : 103 .
6 ـ فصلت : 44 .
7ـ انظر دراسات إسلامية : 91 منشورات الدعوة الإسلامية العالمية ـ بحث ( القرآن واللغة العربية ) د . إبر8اهيم عبد الله رفيدة
8ـ نحو وعي لغوي , د . مازن المبارك , الصفحة : / 19 / .
9ـ إبراهيم : 4 .
10ـ لسان العرب لابن منظور مادة ( عرب ) .
11ـ اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ، لأحمد بن تيمية الحراني : 1 / 169 .
12ـ الإتقان في علوم القرآن للسيوطي : 2 / 477 .
13ـ شعب الإيمان للإمام البيهقي : 2 / 425 برقم / 2287 / .
14ـ إبراهيم : 4 .
ـ 15الشعراء : 192 ـ 193 ـ 194 ـ 195 .
ـ 16الرعد : 37 .
ـ 17الشورى : 7 .
ـ 18الرسالة للإمام الشافعي : 1 / 45 ـ 46 / .
ـ 19المصدر نفسه : 1 / 50 .
20 ـ المصدر نفسه : 1 / 42 .
21 ـ المزهر في علوم اللغة وأنواعها للسيوطي : 1 / 320 .
22 ـ رواه الإمام أحمد في مسنده برقم : / 1589 / .
23ـ مجلة الفيصل العدد / 255 / رمضان 1418 هـ , اللغة العربية بعض خصائصها , شهادات أجنبية بأهميتها , محمد نعمان الدين الندوي , الصفحة : / 70 / .
24 ـ المزهر في علوم اللغة وأنواعها للسيوطي : 1 / 272 .
25 ـ شعب بوان : من أرض فارس وهو أحد المواضع المتنزهة المشتهرة بالحسن وكثرة الأشجار وتدفق المياه وكثرة أنواع الأطيار .اهـ معجم البلدان .
26 ـ معجم البلدان لياقوت الحموي : 1 / 504 .
27 ـ المفصل للزمخشري بشرح ابن يعيش : 1 / 5 .
28 ـ الحجر : 9 .
29ـ نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب ، لأحمد بن محمد المقري التلمساني : 4/ 84 ـ 85 والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي : 2 / 67 برقم :
/ 1202 /.
30 ـ قادة الغرب يقولون : دمروا الإسلام أبيدوا أهله , جلال العالم : 50 .
31 ـ انظر نحو وعي لغوي ، د . مازن المبارك : 125 بتصرف .

من لطائف سورة الكوثر & نكات بلاغية من اللغة العربية


بسم الله الرحمن الرحيم

من لطائف سورة الكوثر & نكات بلاغية


قال تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (1) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (2) {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} (3).
نبدأ بملاحظات عابرة تتعلق بتناسبات صوتية وحرفية الهدف منها إشعار القارئ أن سورة الكوثر تخفي خلف كلماتها العشر أمورا كثيرة وكثيرة جدا:
كلمات السورة استنادا إلى الخط والرسم عشر:
{إِنَّا- أَعْطَيْنَاكَ- الْكَوْثَرَ- فَصَلِّ- لِرَبِّكَ- وَانْحَرْ-إِنَّ- شَانِئَكَ- هُوَ- الْأَبْتَرُ}
- الآية الأولى نسيج حرفي مكون من حروف عشر-بدون اعتبار المكرر منها-:
ا-ن-ع-ط-ي-ك-ل-و-ث-ر.
- الآية الثانية هي أيضا مبنية من عشر حروف-بدون اعتبار المكرر دائما-:
ص-ل-ر-ب-ك-و-ا-ن-ح.
-الآية الأخيرة –كما قد يتوقع القارئ-كأختيها أعني العدد نفسه باعتبار نوع الحرف لا أفراده:
ا-ن-ش-ك-ه-و-ل-ب-ت-ر.
ولعل إشارة أخرى تقلل من فرضية الصدفة وهي أن عدد الحروف التي لم تستعمل إلا مرة واحدة عشرة أيضا وهي:
ع-ط-ي-ث-ف-ص-ح-ش-ه-ت.
• أن قوله تعالى : (إنا أعطيناك الكوثر) دل على عطية كثيرة مسندة إلى معطٍ كبير، ومن كان كذلك كانت النعمة عظيمة عنده، وأراد بالكوثر الخير الكثير، ومن ذلك الخير الكثير ينال أولاده إلى يوم القيامة من أمته، من غير ما وعد به الله وأعطاه في الدارين، من مزايا التعظيم، والتقديم، والثواب ما لم يعرفه إلا الله، وقيل إن الكوثر ما اختص به من النهر الذي ماؤه أحلى من العسل وعلى حافته أواني الذهب والفضة كعدد النجوم.
• أنه جمع ضمير المتكلم، وهو يشعر بعظم الربوبية فالعطاء يتناسب
مع مقام الربوبية المشار إليه بضمير التعظيم.
• أنه صدر الجملة بحرف التوكيد مجرى القسم.
• أنه بنى الفعل على المبتدأ فدل على خصوصية وتحقيق.
• أنه أورد الفعل الماضي دلالة على أن الكوثر لم يتناول عطاء العاجلة دون عطاء الآجلة، ودلالة على أن التوقع من سيب (عطاء ) الكريم في حكم الواقع.
• جاء بالكوثر محذوف الموصوف، لأن المثبت ليس فيه ما في المحذوف من فرط الإيهام والشياع، والتناول على طريق الاتساع، لذا وردت الأقوال الكثيرة عن العلماء في تفسير الكوثر، فمن قائل نهر ومن قائل الأتباع ومن قائل الذكر.. والكوثر يشمل كل ذلك ويزيد، فهو الخير الكثير الموهوب من الرب العظيم.
• اختيار الصفة المؤذنة بالكثرة (على وزن فوعل).
• أتى بهذه الصفحة مصدّرة باللام المعروفة بالأستغراق لتكون ما يوصف بها شاملة، وفي إعطاء معنى الكثرة كاملة.
• وفاء التعقيب في الآية الثانية مستفادة من معنى التسبب لمعنيين:
ـ جعل الإنعام الكثير سبباً للقيام بشكر المنعم وعبادته.
ـ جعله لترك المبالاة بقولة العدو.
فإن سبب نزول هذه السورة: ما روي أن العاص بن وائل قال إن محمد صنبورـ والصنبور الذي لا عقب له ـ فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلت هذه السورة.
• قصده بالأمر التعريض بذكر العاص وأشباهه ممن كانت عبادته ونحره لغير الله.
• أشار بهاتين العبادتين إلى نوعي العبادات : الأعمال البدنية والصلاة قوامها، والمالية ونحر البدن ذروة سنامها، للتنبيه على ما للرسول صلى الله عليه وسلم من الأختصاص في الصلاة التي جعلت فيها قرة عينه، ونحر الإبل التي كان لا يجارى فيه، فقد روي أنه أهدى مائة بدنة فيها جمل في أنفه برة من ذهب.
• حذف اللام الأخرى لدلالة الأولى عليها. فلم يقل وانحر له أو لربك.
• مراعاة حق السجع الذي هو من جملة صفة البديع إذا ساقه قائله مساقاً مطبوعاً بعيداً عن التكلّف.
• قوله (لربك) فيه لطيفتان: وروده على طريق الألتفات التي هي (أم) في علم البلاغة. وصرف الكلام عن لفظ المضمر إلى لفظ المظهر وفيه إظهار لكبرياء شأنه وإثباته لعز سلطانه.
• علم بهذا أن من حقوق الله التي تعبّد العباد بها أنه ربهم ومالكهم وعرّض بترك التماس العطاء من عبد مربوب ترك عبادة ربه.
• وفي الآية الثالثة علل الأمر بالإقبال على شأنه وترك الأحتفال بشانئيه على سبيل الآستئناف الذي هو حسنُ الموقع، وقد كثرت في التنزيل مواقعه.
• ويتجه أن نجعلها جملة الاعتراض مرسلة إرسال الحكمة الخاتمة والاعتراض كقوله تعالى: (إن خير من استئجرت القوي الأمين)[القصص: 26]. وعني بالشانئ العاص بن وائل.
• إنما لم يسمه باسمه ليتناول كل من كان في مثل حاله.
• صدّر الجملة بحرف التوكيد الجاري مجرى القسم وعبّر عنه بالاسم الذي فيه دلالة على أنه لم يتوجه بقلبه إلى الصدق، ولم يقصد بلسانه الإفصاح عن الحق بل نطق بالشنآن الذي هو قرين البغي والحسد، وعين البغضاء، ولذلك وسمه بما ينبئ عن الحقد.
• جعل الخبر معرفة وهو (الأبتر) والشانئ كذلك، ليعلم أنه المعروف لدى الناس يقال له الصنبور).
• الجمل في سورة الكوثر:
لأهل اللغة تقسيمات كثيرة لأنواع الجملة في اللسان العربي لكن المثير للدهشة أن سورة الكوثر الكريمة قادرة على إعطاء مثال عن كل نوع ، وتزداد الدهشة أكثر عندما ندخل في الحسبان أن عدد جمل السورة أربعة فقط. ولكنها "الكوثر": اسما ومسمى.
تنقسم الجمل عند أهل اللسان –عند أهل البيان منهم خاصة-إلى نوعين:
جمل خبرية وجمل انشائية. وإذا تدبرت سورة الكوثر وجدت فيها النوعين معا:
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ.
إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ.
جملتان خبريتان.
فَصَلِّ لِرَبِّكَ.
وَانْحَرْ.
جملتان إنشائيتان طلبيتان .
تتعاقب الجمل في الكلام العربي وفق نظام الوصل والفصل وقد أفرد علماء المعاني هذا النظام بمبحث خاص سموه باب الوصل والفصل واعتبروه أم البلاغة وقلبها.... ويعنينا هنا أن سورة الكوثر قادرة على
إعطاء مثالين للمفهومين:
فجملة "انحر" معطوفة بالواو على جارتها " فَصَلِّ لِرَبِّكَ." وهذا الوصل.
وهي منقطعة عن الجملة اللاحقة إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ. وهذا الفصل.
يقسم أهل النحو الجملة العربية إلى قسمين: جمل اسمية وجمل فعلية.
وقد اشتملت السورة الكريمة على النوعين كما لا يخفى على أحد . والجمل التي ذكرناها عن الخبر والإنشاء تمثل باعتبار آخر الاسمية والفعلية.
استطراد -قد يكون نافعا-:
القسمة ثنائية عند الجمهور فالجمل عندهم إما فعلية وإما اسمية... وقد حاول بعض النحاة قديما وحديثا أن يزيد قسما ثالثا ولكن هذه الزيادة لم تكن مقنعة:
يقسم أهل اللغة الجملة باعتبار بنيتها إلى قسمين: بسيطة ومركبة وقد يعتمدون اصطلاحا مغايرا- قريبا وليس مرادفا- فيقولون:جملة صغيرة وكبيرة. قال في المغني: الكبرى هي الاسمية التي خبرها جملة نحو" زيد قام أبوه" و"زيد أبوه قائم" والصغرى هي المبنية على المبتدأ كالجملة المخبر بها في المثالين.
ولك أن تعجب من سورة الكوثر فهي لم تقدم مثالا عن كل نوع فقط بل قدمت مثالا ثالثا لجملة تحتمل النوعين بحسب وجهة النظر:
- إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ:جملة مركبة أو كبرى ف أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ جملة صغيرة في محل رفع خبر للجملة الأصلية.
- فَصَلِّ لِرَبِّكَ.جملة تامة صغيرة فيها إسناد واحد.
أما جملة: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ..... فهي من المرونة بحيث تضعها حيث شئت: فلو اعتبرت "هو" ضمير فصل و"الأبتر" خبرا عن الشانئ فالجملة بسيطة لا محالة. ولو اعتبرت "هو" مبتدأ و"الأبتر" خبره ومجموعهما خبرا للشانئ فالجملة كبرى ضرورة. فلله در هذه السورة.
• الضمائر في سورة الكوثر:
استوعبت سورة الكوثر كل أنواع الضمير في اللغة العربية دون أن تغفل الأحوال الإعرابية المختلفة وهذا من العجب العجاب لأننا نضع نصب أعيننا دائما أن عدد مفرداتها لا تتجاوز عدد أصابع الإنسان، وتفصيله:
1-الضمائر بارزة ومستترة:
فمن بارز الضمائر في السورة ما ظهر في فعل "أعطيناك".
ومن مستترة ما كمن في فعل "صل "أو" انحر".
2-الضمائر متصلة ومنفصلة:
ولك في جملة "أعطيناك" مثال على المتصل من الضمائر.
ولك في جملة هو الأبتر مثال آخر على الضمير المنفصل.
3-الضمائر في إحالتها على عناصر الخطاب تنقسم إلى ضمائر المتكلم والمخاطب والغائب.
ولا تحتاج إلى غير سورة الكوثر للتمثيل:
-فضمير المتكلم حاضر في" أعطينا".
-وضمير المخاطب في" أعطيناك" و"ربك" و"شانئك" صريحا، و في"صل" و"انحر"مقدرا.
-وضمير الغائب في "هو" صريحا وفي شانئ مقدرا، فتأمل هذه التناسبات اللطيفة.
4-باعتبار مقولة العدد:
جاء في السورة ضمير المفرد وضمير الجماعة. وقد اجتمعا في كلمة "أعطيناك".
5-الضمائر باعتبار محلها من الإعراب:
جاءت الضمائر في السورة متنوعة بحسب المحل الإعرابي:
-ضمير في محل رفع: (أعطيناك) الضمير الأول فيها فاعل مرفوع.
-ضمير في محل نصب: (أعطيناك) الضمير الثاني فيها مفعول به منصوب.
-ضمير في محل جر: (ربك) الكاف فيها مضاف إليه مجرور.
ومن لطائف السورة في هذا السياق أن الكلمات الدالة على الرب عز وجل ثلاث هي:
- اسم إن.
- فاعل أعطى.
- الرب.
وجاءت على التوالي:
- منصوب
- مرفوع
- مجرور.
وعلى نفس الترتيب الإعرابي جاءت الكلمات التي تدل على الرسول صلى الله عليه وسلم.
- "كاف" أعطيناك منصوبة
- "صل"الضمير المستتر مرفوع.
- "كاف" ربك مجرور.
•   الأفعال في السورة:
لم يأت في السورة من الأفعال إلا ثلاثة: "أعطى"-"صلى"-"نحر".
لكنها على قلتها مثلت من المقولات الصرفية والتركيبية عددا كبيرا:
1- الفعل الصحيح: نحر
2- الفعل المعتل: أعطى.
3- الفعل المضعف: صلى.
4- الفعل المجرد: نحر.
5- الفعل المزيد: أعطى.
6- الفعل اللازم: صلى.
7- الفعل المتعدي إلى مفعول واحد: نحر.
8- الفعل المتعدي إلى أكثر من مفعول: أعطى.
فلله درها من سورة.... والله أسال أن يعفو عما كان من خطأ أو تقصير...... وصلى الله على محمد صاحب الحوض والكوثر وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
   dr. Sajid Sharif Atiya  سجاد الشمري 


المصادر .....................
مقتطف من بحث "عجائب القرآن في النحو والبيان"- عن منتدى أهل الحديث
كتاب مباحث في إعجاز القرآن . أ.د. مصطفى مُسلم. دار القلم.

ذروة سنام الدين الصدق وصحة اليقين إكراماً او إهانة للظالم


بسم الله الرحمن الرحيم

ذروة سنام الدين الصدق وصحة اليقين إكراماً او إهانة للظالم


الحمد لله الذي جعل الجهاد في سبيله ذروة سنام الدين، والصدع بالحق واجباً أساسياً على المسلمين، والتضحية بالنفس والمال دليل الصدق وصحة اليقين، وجعل الشهادة إكراماً للشهيد وإهانة للظالم، والذي أنزل القرآن الكريم والسنة النبوية ميزاناً للحق والدليل القويم، والذي أمرنا أن ننزل الناس منازلهم مع التواصي بالحق والتواصي بالصبر.
والصلاة والسلام على إمام المجاهدين وقائد الغر المحجلين، والذي كان لأمته الأسوة الحسنة والقدوة المباركة وعلى آل بيته الصالحين الأطهار وأصحابه البررة الأخيار من الذين ضربوا أروع الأمثلة في اليقين والصدق والتضحية والبذل والاستشهاد.
أما بعد،
إن الإيمان بالحق، والولاء المطلق للحق، والعيش بصدق للحق والتضحية في سبيله بكل ما للكلمة من معنى، صفات مميزة ومبادئ عليا، تجعل للحياة قيمة، هذه القيمة التي يندر أن تكون إلا للقلة من العظماء والأبطال.
وهذه القضية، أي قضية الإيمان بالحق وبذل النفس له، ليست مسألة هامشية في مسيرة الحياة، يمكن لنا أن نتجاوز منطلقها ونتائجها ببساطة، بل هي من أهم مرتكزات الحياة الجادَّة، وضوابط العيش الكريم ومعالم الطريق الصحيح للإيمان، هي في الحقيقة كالشمس للدنيا وكالعافية للناس.
للمبادئ في الحياة رجال لا كالرجال، وأبطال لا كالأبطال لا يمكن أن تتحقق إلا من خلالهم.
والرجال والأبطال العظماء حقاً، لا يمكن أن تتجه رؤاهم إلا للمبادئ والحق. وإن هؤلاء الرجال والأبطال ما كانوا ليبرز دورهم الرائد إلا برعاية إلهية وتربية أخلاقية رفيعة مميزة وإيمان عميق، وطباع لا تعمل إلا للأريحية والنخوة، فكان لهم من الطبيعي تلك الممارسات المميزة، والتأثيرات العظيمة، والقدرات الواسعة على التحويل التاريخي.
إذن ما يميز الرجال والأبطال الأفذاذ هو ذلك الإيمان والطبع والمزاج والأصالة التي خصهم الله تعالى بها، فكان هذا مقياس التفرد والقدرة والإبداع عند هؤلاء الأفراد المعدودين التي لا تدوم مسيرة الحياة إلا بإنجازاتهم وتضحياتهم، وتبقى آثارهم على مدى الزمن وطول الحياة.
من هؤلاء الأفذاذ النادرين الذين ارتبطت أرواحهم وأشواقهم بالحق كان الإمام الحسين بن علي، عليهما السلام.
أيها الأخوة والأخوات،
نلتقي اليوم في ذكرى حادثة كبرى من حوادث التاريخ، وتعتلج في نفوسنا عواطف وأشواق وآلام وآمال، تتركنا ولا شك حيارى حزانى، لولا أن تتداركنا نعمة الله تعالى الذي أرسل نبيه عليه الصلاة والسلام بالحق قائلاً: لقد تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
فنتوقف لنرى في هذه الذكرى أكثر من نكبة وأوسع من مأساة وفاجعة، نرى فيها مناسبة لإقامة الحق، ومعلماً للتضحية في سبيله.
نرى في الذكرى جلال الإيمان تجاه استمراء النفاق، ونرى فيها إعلان الحق تجاه الصمت والسكوت، نرى الشجاعة الفائقة للعدد القليل تجاه من يفوقهم عدداً وعدة، نرى فيها التضحية لكل شيء في سبيل رب لكل شيء.
عندما نتكلم في هذه الذكرى عن الإمام الحسين عليه السلام، فإننا نقف بإجلال أمام ذلك البطل العملاق الذي يصعب التعبير عن عظمته مهما أوتينا بلاغة التعبير، ونعجز عن إيفاء حقه بالحديث عن تضحيته مهما كانت قدراتنا اللغوية، ونتوهم كثيراً لو ظننا، أننا بكلمة أو خطبة أو محاضرة يمكن أن نحسن التعبير عن شخصه وآثره.
ولكننا نعزي أنفسنا في هذه المناسبة بأننا نتكلم عن بطل من أبطال الإسلام، عن الشهيد ابن الشهيد، عن صاحب الخصائص والفضائل العظمى التي أحاطه الله بها، فكانت له تلك المكانة السامقة في تاريخنا ونفوسنا، وفي تقديرنا واحترامنا، لا يبلغها أحد بالهين إلا من كان على شاكلة هذا الرجل، وهم أقل من القليل.
وإذا جازلنا أن نضيف على ما قيل، أو نركز على ناحية أكثر من غيرها، فإننا نسمح لأنفسنا القول: إن الحسين بن علي عليهما السلام كان ذلك الشخص صاحب المزية الكبرى، مزية في أصله ومنبته، وفي طفولته ونشأته، وفي صباه وشيخوخته، بل كان مميزاً في استشهاده... لقد كان عليه السلام شيئاً آخراً، مسلماً آخراً، وكان بالتالي شهيداً آخراً، لذلك صعب على الكثيرين أن يفهموه، أو أن يستوعبوا حركته وأهدافه، لأنهم كانوا أصغر منه وأقل شأناً، وإلا فكيف للصغير أن يفهم الكبير، وأنى للجزء أن يحتوي الكل.
وكلامنا عن تميز شخصية الإمام أبي الشهداء، لا نقوله مبالغة أو انفعالاً، ولا نزعمه حباً أو امتناناً، ذلك أن ما نعبر عنه كان أمراً واقعاً، وحقيقة ماثلة، ونموذجاً حياً كضوء الشمس، لا يخفى إلا على من فقد نعمة البصر والبصيرة.
التميز في الأصل والمنبت
إن تميز الإمام الحسين في أصله ومنبته هو حيث لا يماثله أحد في الدين والشرف والنسب والفضائل، وإذا تجاوزنا مسألة النسب التي تتصل إلى ما قبل الإسلام ببني هاشم الذين كان لهم منذ الجاهلية تلك الأخلاق والرئاسات الدينية ما ميزهم بكثير من الممارسات عن بقية بطون قريش، وإذا تجاوزنا ذلك فنقول إنه يكفيه فخراً وعزاً وشرفاً أنه كان حفيداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن ابنته فاطمة الزهراء السيدة الطاهرة، سيدة نساء أهل الجنة وأحب الناس إلى رسول الله، بضعته الطاهرة، التي يؤذيه ما يؤذيها ويريبه ما يريبها، وأبوه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أول من أسلم وأحد المبشرين بالجنة من يحبه الله ورسوله، وحيث لا يمكن للكلام أن يحيط بهذه المكانة والكرامة وهو كما قيل (والغصن من حيث ينبت).
التميز في الطفولة والنشأة
أما التميز في الطفولة، فهو من سمَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قبله أخاه، فقد روي عن الإمام علي كرم الله وجهه: لما ولد الحسن سميته حرباً، فجاء رسول الله فقال: أروني ابني، ما سميتموه؟ قلت: حرب، فقال: بل هو حسن، فلما ولد الحسين سميته حرباً فجاء رسول الله فقال: أروني ابني ما سميتموه؟ قلت: حرب، فقال بل هو حسين.
فقد أفاض رسول الله عليه الصلاة والسلام على الإمام من محبته وحنانه وعطفه الشيء الكثير، فقد عق عنه مع أخيه، وحنكهما بيده الشريفة، وكان لا يحب أن يستمع إلى بكاء منهما في طفولتهما، على كثرة ما يبكي الأطفال الصغار، فمر يوماً على بيت فاطمة فسمع حسيناً يبكي، فقال لها: ألم تعلمي أن بكاءه يؤذيني.
وكان يقول لها: ادعي إليَّ ابني، فيشمهما ويضمهما إليه ولا يبرح حتى يضحكهما ويتركهما ضاحكين، وكان يقول: إن الحسن والحسين هما ريحانتاي من الدنيا.
كما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصرهما مرة فقال:{اللهم إني أحبهما فأحبهما}، وعندما حاول البعض أن يبعدهما عنه صلى الله عليه وسلم عندما كانا يثبا على ظهره قال: دعوهما بأبي هما وأمي من أحبني فليحب هذين، وفي رواية من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني.
وقال: {حسينٌ مني وأنا من حسين، أحب اللهُ من أحب حسيناً، حسين سبط من الأسباط}.
وروى أنه بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذ جاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل عليه الصلاة والسلام من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه وقال:  نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما.

وتكرر أمثال هذه الروايات التي تظهر تلك العلاقة الخاصة والمحبة الجمة التي كانت من رسول الله للإمام وأخيه، ولعمري فأي منحة هذه أن تتساوى محبة إنسان مع محبة أشرف خلق الله وخاتم رسل الله.
التميز في الصبا والشباب
لقد أتاحت له نشأته في جو الدين والعلم أن يتعلم خير ما يتعلم أبناء زمانه من فنون العلم والأدب والفروسية مع تمكّن من الفقه واللغة، ونسبت إليه أقوال في التصوف والحكمة. كما أوتي ملكة الخطابة من طلاقة لسان وحسن بيان وغنة صوت وجمال إيماء، ومن كلامه المرتجل ما قاله في توديع أبي ذر {يا عماه إن الله قادر أن يغير ما قد ترى، والهو كل يوم في شأن، وقد منعك القوم دنياهم ومنعتهم دينك، وما أغناك عما منعوك وما أحوجهم إلى ما منعتهم، فاسأل الله الصبر والنصر، واستعذ به من الجشع والجزع، فإن الصبر من الدين والكرم، وإن الجشع لا يقدم رزقاً والجزع لا يؤخر آجلاً}.
وتواترت الروايات بقوله الشعر في أغراض الحكمة ومناسبات خاصة. هذا كله أضاف إلى ما لديه رفعه ومكانة، وهو الذي استأهل أن يقول عنه صلى الله عليه وسلم مع أخيه: أنهما سيدا شباب أهل الجنة.
وأما في الشجاعة فهو صاحب الميدان المجلَّى، وهي فضيلة ورثها بالدم عن الآباء وأورثها أبناءه، وقد شهد الحروب في أفريقية الشمالية وطبرستان والقسطنطينية، وحضر مع أبيه وقائعه كلها، وليس في بني الإنسان من هو أشجع قلباً ممن أقدم على أقدم عليه الإمام في يوم كربلاء.
كما كان له تقدم في فنون الفروسية كركوب الخيل والمصارعة والعدو، ولم تفته ألعاب الرياضة التي تتم بها مرانة الجسم على الحركة والنشاط، ومنها لعبة المداحي، وهي لعبة تشبه اليوم ما يسمى بالغولف.
هذا كله إلى جانب لطف الحس وجمال الذوق والقصد في تناول كل مباح، فقد كان يحب الطيب والبخور، ويأنق للزهر والريحان مع أريحية وكرم، فقد دخلت عليه جارية تحمل إليه ريحان فحيته بها، فقال لها: أنت حرة لوجه الله تعالى، فسئل: جارية تجيئك بطاقة ريحان فتعتقها، فقال:  كذا أدبنا ربنا، فقال: وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها، وكان أحسن منها عتقها.
التميز في الخلق والدين
إن تميز الإمام في هذا المجال بلغ قمة لا تكون إلا للخاصة من الناس مما يليق بالبيت الذي نشأ فيه ورعى حقه وأوجب على الناس توقيره. لقد كان الإمام على فضله وذكائه كان يستمع إلى أخيه الحسن في رأيه ولا يسوءه بالمراجعة أو المخالفة.
ولم يذكر عنه أنه كان يواجه الناس بتخطئة وهو يعلمهم ويبصرهم بشؤون دينهم، فمن آدابه وأخيه أنهما رأيا أعرابياً يخطئ في الوضوء فلم يشاءا أن يثبتا له خطأه بل قالا له: {نحن شابان وأنت شيخ، وربما تكون أعلم بأمر الوضوء والصلاة منا فنتوضأ ونصلي عندك فإن كان عندنا قصور تعلمنا} فتنبه الشيخ إلى غلطه دون أن يتأذى من الملاحظة.
ومر الإمام يوماً بمساكين يأكلون في الصفة، فقالوا: الغداء، فنزل وقال: إن الله لا يحب المكبرين فتغدى ثم قال لهم: قد أجبتكم فأجيبوني، ثم مضى بهم إلى منزله ليطعمهم.
التميز في مرحلة الشيخوخة
وتتابعت تلك الصفات المميزة في شيخوخته، حيث تأصلت فيه وتعمقت صفات الإيمان والعلم مما جعله مقصداً لطلاب العلم الذين كانوا يأتونه للنهل من علمه وحكمته، تلك الحكمة وحسن التصرف التي اشتهرت عنه ما جعل الفتن تبعد لفترة من الزمن عن حياة المسلمين بفضل مواقفه وهو الذي قيل عنه: {والله لا أرى فيه للعيب موضعاً}.
التميز في الشهادة
إن استشهاد الإمام الحسين كانت نتيجة حتمية لحركة نادرة من حركات التاريخ، التي تميزت بأنها حركة نادرة لا يمكن أن تتكرر، حركة تحتاج إلى من كان على شاكلة الإما ، تلك الحركة التي لم تكن مغامرة سياسية، ولا صفقة تجارية، ولا وسيلة لنيل الدنيا، بل كانت إرادة للحق بالموت أو بالحياة، سيان، هي حركة لا تقاس إلا بمقياسها العجيب، حيث لا يُنظر إلى نتيجتها من حيث النصر والهزيمة، فهنا يفاجئنا التاريخ بميزان دقيق {وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان} وقد قضى بأن الفائز في الحقيقة كان مهزوماً يوم القتال، وأن الخاسر الحقيقي كان الذي ادعى النصر، وتلك عجيبة من عجائب الدهر.
ولكن إن نظرنا إلى تلك القضية ومن هو بطلها، يزول ذلك العجب لأنها كانت من فعل الإمام الحسين وهو من هو في دينه ومواقفه وصبره وجرأته وثباته في وقت اختلطت فيه الأمور وعمت الفتن واضطربت الأحوال، في تلك الأوقات التي تحتاج فيها البشرية إلى:
-    رؤية نافذة تدرك الأبعاد.
-    إلى يد ثابتة تحدد الخطأ وتشير إلى الصواب.
-    إلى بطل يقتحم الصعاب ولا يهاب الموت.
-    إلى هاتف بالحق لا يخاف في الله لومة لائم.
-    وكل ذلك لا يتوفر إلا في تلك الشخصية الفذة: الحسين بن علي.

هنا حدثت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم التي تنبأ فيها بقتل الحسين، فقد روى بالسند الصحيح عن الإمام علي أنه دخل ذات يوم على النبي صلى الله عليه وسلم وعيناه تفيضان، قلت: يا نبي الله أغضبك أحد؟ ما شأن عيناك تفيضان؟ قال: بل قام من عندي جبريل قبل فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات...}.
كما تتجلى ولاية الإمام، والله تعالى يقول: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون}.
روت امرأة أنصارية أنها دخلت على زوج النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة فرأتها تبكي، قلت: ما يبكيك، قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وعلى رأسه ولحيته التراب، فقلت: ما لك يا رسول الله، قال/ شهدت قتل الحسين آنفاً}.
وقال ابن سيرين: لم تبك السماء على أحد بعد يحيى بن زكريا إلا على الحسين بن علي.
لقد تمثلت ولايته برغم كل هذا الحزن وبرغم أن الحادثة كانت وقتها نكبة ولكن تحولت إلى انتصار في رؤيته وفكره، في ثباته وقوته، في تقدير الناس له.
أما الذين انتصروا في المعركة من أعدائه الذين دعا عليهم وهو صامد وحده وسط سيوفهم {إن لأرجو الله أن يكرمني بهوانكم}، فقد حدث هذا الهوان لهم حقاً فكان أن جميع الذين اشتركوا في قتله وقتاله لقوا حتفهم على أبشع الصور وأشدها مذلة وهواناً فارين هاربين، ليس فيهم من مات ميتة رجل.
ويهمني في هذه المناسبة أن أشير إلى أن الأمة بأجمعها تقدر الإمام الحسين بن علي وترى فيه ذلك البطل المقدام والشهيد المكرم، وربما ظن البعض أن أهل السنة والجماعة بعيدون عن هذه القضية لا يلتفتون إليها، وهذا محض افتراء ونأي عن الحقيقة.
فإننا لا نجد عالماً من علماء السنة إلا وكان أهل البيت عنده ذوو المكانة، أصحاب التأسي والقدرة.
فها هو الإمام البخاري خصص في صحيحه قسماً كبيراً لمناقب آل البيت وأورد الأحاديث الصحاح في منزلتهم.
وكذا فعل الإمام مسلم في كتاب الفضائل في صحيحه، والإمام أبو عيسى الترمذي من أكثر أصحاب الكتب الستة إيراداً لمناقب آل البيت، ثم الإمام أبو داود السجستاني وابن ماجة والنسائي.
وما يقال عن المحدثين يقال في المفسرين والفقهاء والمتكلمين والأصوليين وغيرهم من المتقدمين والمتأخرين، فكتبهم تمتلئ بذكر فضائل آل البيت والأمر بمحبتهم واحترامهم، مما يصعب علينا  في هذه العجالة أن نورده أو نحصيه.
بل حتى شيخ الإسلام ابن تيمية الذي أساء البعض الظن به فقد قال في مجموع فتاواه: والحسين رضي الله عنه أكرمه الله تعالى بالشهادة في هذا اليوم وأهان بذلك من قتله أو أعان على قتله أو رضي بقتله وله أسوة حسنة بمن سبقه من الشهداء فإنه وأخوه سيدا شباب أهل الجنة، وكانا قد تربيا في عز الإسلام لم ينالا من الهجرة والجهاد والصبر على الأذى ما ناله أهل بيته فأكرمهما الله بالشهادة تكميلاً لكرامتهما ورفعاً لدرجاتهما وقتله مصيبة عظيمة...}
وبعد،
فيا أيها الشهيد ابن الشهيد
قدرك أن تكون جزءاً هاماً من حياة هذه الأمة،
وقدر هذه الأمة أن يكون تاريخها مليء بالنكبات والمصائب.
هذه المصائب ما زالت منذ أيام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث بقينا نعيش بالحد الأدنى من الأمن والراحة والاطمئنان، فأي عذاب عاشه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله وصحبه منذ بدء الدعوة في مكة واضطرارهم إلى الهجرة مرتين إلى الحبشة وثالثة إلى طيبة الطيبة.
ويظهر أننا أمة الحزن فرؤوس الأمة قد اغتيلوا على يد الغدر والعدوان، ولكن ما يعزينا أن الإسلام بقي وانتشر الإيمان في الآفاق ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
ثم حدثت نكبة كربلاء وكانت من الفواجع الكبرى بطريقة القتل وعدد المقتولين وبشخصياتهم وبما تركت من أثر.
وقدر الله أن تبقى الدعوة الإسلامية وأن تتابع الفتوحات ووصلت إلى أقاصي الأرض، وجاهد في سبيل الله الآلاف واستشهد الآلاف وبقي الإسلام، وهو الأهم الذي عمل الجميع وفيهم الحسين على أن يحافظوا عليه بأنفسهم وما يملكون.
فهل قدر الأمة أن يكون رجالها وأبطالها هم وقود حياتها وحيويتها وذخيرة وجودها واستمرارها.
أيها الشهيد
الأمة اليوم هي بأمس الحاجة إلى استلهام إيمانك وفكرك وثباتك وشهادتك ورجولتك وهي تواجه العدوان الأقوى من الدول القوية. تقف اليوم نفس الموقف الذي وقفته أنت، شر طاغ غير محدود أمام فرقة وتشتت عميق.
نحتاج إلى الإقتداء بك وبالمجاهدين أمثالك، ساعتئذ نستأهل النصر.
الله يسر لنا الالتزام بسلفنا الصالح ومنهم الحسين بن علي وارض عنه وعنا وثبتنا على دينك ورسالتك لنفوز في الدارين.
   dr. Sajid Sharif Atiya  سجاد الشمري 

فاطمة أمّ فروة (عليها السلام) بنت القاسم والدة الإمام الصادق (عليه السلام)


بسم الله الرحمن الرحيم

السيّدة فاطمة أمّ فروة (عليها السلام) بنت القاسم والدة الإمام الصادق (عليه السلام)
 
نسبها
هي السيدة الجليلة فاطمة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، والدة الإمام الصادق (عليه السلام).
كنيتها: أم فروة، وقيل: أم القاسم.
وقد كانت (عليها السلام) من الصالحات القانتات، ومن أتقى نساء أهل زمانها.
قال الإمام الصادق(عليه السلام): «وكانت اُمّي ممّن آمنت واتّقت وأحسنت والله يحب المحسنين»(1).
وقال أبو الحسن الكاظم (عليه السلام): «كان أبي (عليه السلام) يبعث أمي وأم فروة تقضيان حقوق أهل المدينة»(2).
وفي أعيان الشيعة: اُمّ فروة، وقيل: اُمّ القاسم، واسمها قريبة أو فاطمة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، واُمّها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، وهذا معنى قول الإمام الصادق (عليه السلام): «ولدني أبو بكر مرتين»(3) .
والدها
كان أبوها: القاسم من ثقاة أصحاب الإمام علي بن الحسين زين العابدين(عليه السلام).
قال أبو عبد الله (عليه السلام): «كان سعيد بن المسيّب والقاسم بن محمد بن أبي بكر وأبو خالد الكابلي، من ثقات علي بن الحسين (عليه السلام)»(4).
جدها
وكان جدها محمد بن أبي بكر من خلص شيعة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وحواريه، وقد ولاه الإمام (عليه السلام) مصر وكتب إليه عهداً(5)، ووالدته(6) السيدة الجليلة أسماء بنت عميس (رضوان الله عليها).
قتله معاوية بمصر(7)، وقد ترحم أمير المؤمنين(عليه السلام)(8) والإمام الصادق(عليه السلام) عليه(9).
ووردت في فضله روايات عديدة نشير إلى بعضها:
من هم شيعة علي (عليه السلام)
في الاحتجاج بالإسناد إلى أبي محمد العسكري (عليه السلام) قال: «قدم جماعة فاستأذنوا على الرضا (عليه السلام) وقالوا: نحن من شيعة علي، فمنعهم أياما، ثم لما دخلوا قال لهم: ويحكم إنما شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام): الحسن والحسين وسلمان وأبو ذر والمقداد وعمار ومحمد بن أبي بكر الذين لم يخالفوا شيئاً من أوامره»(10).
أين حواري علي (عليه السلام) ؟
وقال أبو الحسن موسى (عليه السلام): «إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين حواري محمد بن عبد الله رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)الذين لم ينقضوا العهد ومضوا عليه، فيقوم سلمان والمقداد وأبو ذر، ثم ينادي أين حواري علي بن أبي طالب وصي محمد بن عبد الله رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)فيقوم عمرو بن الحمق الخزاعي ومحمد بن أبي بكر وميثم بن يحيى التمار مولى بني أسد وأويس القرني»(11).
إنه شهيد حي
قال سليم: فلمّا قتل محمد بن أبي بكر بمصر وعزّيت به أمير المؤمنين(عليه السلام) وخلوت به وحدثته بما حدثني به محمد بن أبي بكر وبما حدّثني به ابن غنم، قال: «صدق محمد رحمه اللّه، أما انّه شهيد حيّ مرزوق»(12).
عند الله نحتسبه
وفي التاريخ أنه حزن أمير المؤمنين (عليه السلام) عند ما بلغه خبر استشهاد محمد بن أبي بكر، حتى رئي ذلك فيه وتبين في وجهه وقام في الناس خطيباً: «ألا وإن محمد بن أبي بكر قد استشهد رحمه الله فعند الله نحتسبه، أما والله لقد كان ما علمت ينتظر القضاء ويعمل للجزاء ويبغض شكل الفاجر ويحب هين المؤمن»(13).
حزن الإمام (عليه السلام) عليه
وورد أنه: قدم عبد الرحمن بن شبيب وكان عيناً لعلي(عليه السلام) وأخبره أنه لم يخرج من الشام حتى قدمت البشر من قبل عمرو بن العاص يتبع بعضه بعضاً بفتح مصر وقتل محمد بن أبي بكر، وقال: يا أمير المؤمنين ما رأيت يوماً قط سروراً مثل سرور رأيته بالشام حين أتاهم قتل محمد، فقال علي(عليه السلام) : «أما إن حزننا على قتله على قدر سرورهم به لا بل يزيد أضعافا».
فرد (عليه السلام) مالكا من الطريق وحزن على محمد حتى رؤي ذلك فيه وتبين في وجهه، وقام خطيبا فحمد الله وأنثى عليه ثم قال: «ألا وإن مصر قد افتتحها الفجرة أولياء الجور والظلم الذين صدوا عن سبيل الله وبغوا الإسلام عوجاً ألا وإن محمد بن أبي بكر قد استشهد رحمه الله عليه وعند الله نحتسبه، أما والله لقد كان ما علمت ينتظر القضاء ويعمل للجزاء ويبغض شكل الفاجر ويحب سمت المؤمن»(14).
إنه ولدي
وقال المدائني: وقيل لعلي(عليه السلام) لقد جزعت على محمد بن أبي بكر جزعاً شديداً يا أمير المؤمنين؟ فقال: «وما يمنعني أنه كان لي ربيباً وكان لبني أخاً وكنت لـه والداً أعده ولداً»(15).
جزع الأمير (عليه السلام) عليه
وعن عبد الله بن جعفر ذي الجناحين قال: (لما جاء علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه) مصاب محمد بن أبي بكر حيث قتله معاوية بن حديج السكوني بمصر جزع عليه جزعا شديدا)(16).
نقصنا حبيباً
وفي (نهج البلاغة) وقال(عليه السلام) لما بلغه قتل محمد بن أبي بكر: «إن حزننا عليه على قدر سرورهم به إلا أنهم نقصوا بغيضاً ونقصنا حبيباً»(17).
الولد الناصح
وفي (نهج البلاغة) أيضاً: ومن كتاب لـه (عليه السلام) إلى عبد الله بن العباس بعد مقتل محمد بن أبي بكر بمصر: «أما بعد فإن مصر قد افتتحت ومحمد بن أبي بكر رحمه الله قد استشهد فعند الله نحتسبه ولدا ناصحا، وعاملا كادحا، وسيفا قاطعا، وركنا دافعا، وقد كنت حثثت الناس على لحاقه وأمرتهم بغياثه قبل الوقعة ودعوتهم سراً وجهراً وعوداً وبدءً»(18).
رسالة إلى معاوية
وفي (الاحتجاج): كتب محمد بن أبي بكر (رضي الله عنه) إلى معاوية احتجاجا عليه:
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ من محمد بن أبي بكر إلى الباغي معاوية بن صخر، سلام الله أهل طاعة الله ممن هو أهل دين الله وأهل ولاية الله، أما بعد فإن الله بجلاله وسلطانه خلق خلقا بلا عبث منه ولا ضعف به في قوة، ولكنه خلقهم عبيدا فمنهم شقي وسعيد وغوي ورشيد، ثم اختارهم على علم منه واصطفى وانتخب منهم محمدا(صلى الله عليه وآله وسلم)واصطفاه لرسالته وائتمنه على وحيه فدعا إلى سبيل ربه (بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ((19)، فكان أول من أجاب وأناب وأسلم وسلّم أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب (عليه السلام) فصدقه بالغيب المكتوم وآثره على كل حميم ووقاه كل مكروه وواساه بنفسه في كل خوف، وقد رأيتك تساويه وأنت أنت وهو هو، المبرز السابق في كل خير وأنت اللعين بن اللعين، لم تزل أنت وأبوك تبغيان لدين الله الغوائل وتجتهدان على إطفاء نور الله، تجمعان الجموع على ذلك وتبذلان فيه الأموال وتحالفان عليه القبائل، على ذلك مات أبوك وعليه خلفته أنت فكيف لك الويل تعدل عن علي وهو وارث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ووصيه وأول الناس لـه اتباعا وآخرهم به عهدا، وأنت عدوه وابن عدوه، فتمتع بباطلك ما استطعت، وتبدد بابن العاص في غوايتك، فكأن أجلك قد انقضى، وكيدك قد وهى، ثم تستبين لمن تكون العاقبة العليا، والسلام على من اتبع الهدى).
فأجابه معاوية: (إلى الزاري على أبيه محمد بن أبي بكر، سلام على أهل طاعة الله، أما بعد فقد أتاني كتابك تذكر فيه ما الله أهله في قدرته وسلطانه مع كلام ألفته ورصفته لرأيك فيه، ذكرت حق علي وقديم سوابقه وقرابته من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)ونصرته ومواساته إياه في كل خوف وهول، وتفضيلك عليا وعيبك لي بفضل غيرك لا بفضلك، فالحمد لله الذي صرف ذلك عنك وجعله لغيرك، فقد كنا وأبوك معنا في زمان نبينا محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)نرى حق علي لازما لنا وسبقه مبرزا علينا، فلما اختار الله لنبيه(صلى الله عليه وآله وسلم)ما عنده وأتم لـه ما وعده وقبضه إليه(صلى الله عليه وآله وسلم)فكان أبوك وفاروقه أول من ابتزه حقه وخالفه على ذلك اتفقا ثم دعواه إلى أنفسهما فأبطأ عليهما فهما به الهموم وأرادا به العظيم فبايع وسلم لأمرهما لا يشركانه في أمرهما ولا يطلعانه على سرهما حتى قضى الله من أمرهما ما قضى، ثم قام بعدهما ثالثهما يهدي بهديهما ويسير بسيرتهما فعبته أنت وأصحابك حتى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي حتى بلغتما منه مناكم، وكان أبوك مهد مهاده، فإن يكن ما نحن فيه صوابا فأبوك أوله، وإن يكن جورا فأبوك سنه ونحن شركاؤه وبهديه اقتدينا، ولولا ما سبقنا إليه أبوك ما خالفنا عليا ولسلمنا له، ولكنا رأينا أباك فعل ذلك فأخذنا بمثاله، فعب أباك أو دعه، والسلام على من تاب وأناب)(20).
نجابته من أمه
وعن حمزة بن محمد الطيار قال:
ذكرنا محمد بن أبي بكر عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «رحمه الله وصلى عليه، قال لأمير المؤمنين (عليه السلام) يوما من الأيام: ابسط يدك أبايعك، فقال: أوما فعلت؟ قال: بلى، فبسط يده، فقال: أشهد أنك إمام مفترض طاعتك وأن أبي في النار، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): كان النجابة من قبل أمه أسماء بنت عميس رحمة الله عليها لا من قبل أبيه»(21).
هكذا بايع
وعن زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام): «أن محمد بن أبي بكر بايع عليا (عليه السلام) على البراءة من الأول»(22).
وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «بايع محمد بن أبي بكر على البراءة من الثاني»(23).
الأصحاب الأصفياء
كما ورد أن «من أصفياء أصحابه ـ أي أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ عمرو بن الحمق الخزاعي عربي وميثم التّمار وهو ميثم بن يحيى مولى ورشيد الهجري وحبيب بن مظهّر الأسدي ومحمد بن أبي بكر»(24).
لا يرضى بمعصية الله
وعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «كان عمّار بن ياسر ومحمد بن أبي بكر لايرضيان أن يعصى اللّه عزّ وجلّ»(25).
المحامدة
وعن أبي الحسن الرّضا (عليه السلام) قال: «كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: إنّ المحامدة تأبى أن يعصى عزّوجلّ، قلت: ومن المحامدة؟ قال: محمد بن جعفر، ومحمد بن أبي بكر ، ومحمد بن أبي حذيفة، ومحمد بن أمير المؤمنين ابن الحنفيّة ـ رحمهم اللّه ـ أمّا محمد بن أبي حذيفة فهو ابن عتبة بن ربيعة، وهو ابن خال معاوية»(26).
وفي يوم الجمل
وفي التاريخ أنه: سلّم محمد بن أبي بكر يوم الجمل على عائشة ـ أخته ـ فلم تكلمه، فقال: أسألك بالله الذي لا إله إلا هو، ألا سمعتك تقولين: الزم علي بن أبي طالب، فإني سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يقول: «الحق مع علي وعلي مع الحق لا يفترقان حتى يردا علي الحوض»؟
قالت: بلى قد سمعت ذلك منه(صلى الله عليه وآله وسلم)(27).
يحدث بفضائل فاطمة (عليها السلام)
وروي: أن محمد بن أبي بكر قرأ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ( الآية(28)، قلت: وهل تحدث الملائكة إلا الأنبياء؟ قال: مريم ولم تكن نبية وكانت محدثة، وسارة وقد عاينت الملائكة وبشروها بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، ولم تكن نبية، وفاطمة بنت محمد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)كانت محدثة، ولم تكن نبية»(29).
أسماء بنت عميس
وأم محمد بن أبي بكر هي السيدة الجليلة أسماء بنت عميس كانت تحت جعفر بن أبي طالب وهاجرت معه إلى الحبشة فولدت لـه هناك عبد الله بن جعفر الجواد ثم قتل عنها يوم مؤتة، فخلف عليها أبو بكر فأولدها محمداً ثم مات عنها، فخلف عليها علي بن أبي طالب (عليه السلام) وكان محمد ربيبه وخريجه، وجاريا عنده مجرى أولاده، ورضيع الولاء والتشيع مذ زمن الصبا، فنشأ عليه، فلم يمكن يعرف أباً غير علي (عليه السلام) ولا يعتقد لأحد فضيلة غيره، حتى قال(عليه السلام): «محمد ابني من صلب أبي بكر»، وكان يكنى أبا القاسم، وقيل: أبا عبد الرحمن، وكان من نساك قريش، وكان ممن أعان في يوم الدار، واختلف هل باشر قتل عثمان أو لا، ومن ولد محمد: القاسم بن محمد بن أبي بكر فقيه أهل الحجاز وفاضلها، ومن ولد القاسم: عبد الرحمن من فضلاء قريش ويكنى أبا محمد، ومن ولد القاسم أيضا: أم فروة تزوجها الإمام الباقر أبو جعفر محمد بن علي صلوات الله عليهما(30).
إنهما ابنا خالة
وفي بعض التواريخ: (إن حريثا بعث إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ببنتي يزدجرد فأعطى واحدة لابنه الحسين (عليه السلام) فأولدها علي بن الحسين (عليه السلام) وأعطى الأخرى محمد بن أبي بكر فأولدها القاسم بن محمد فهما ابنا خالة)(31).
أختها
ولاُمّ فروة اُخت تعرف باُمّ حكيمة، كانت زوجة اسحاق العريضي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، ولدت لـه القاسم، وهو رجل جليل، كان أميراً على اليمن، وهو أبو داود بن القاسم المعروف بأبي هاشم الجعفري البغدادي، العالم الورع، الثقة الجليل، الذي أدرك الرضا وبقية الأئمة (عليهم السلام)، وكان من وكلاء الناحية المقدّسة، وكان عالي النسب، فإنه ينتهي إلى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (عليه السلام).
فقهها
روى الكليني في الكافي بسنده عن عبد الأعلى قال: رأيت اُمّ فروة تطوف بالكعبة عليها كساء متنكّرة، فاستلمت الحجر بيدها اليسرى، فقال لها رجل ممّن يطوف: يا أمة الله أخطأت السُنّة.
فقالت: إنّا لأغنياء عن علمك(32).
وعن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إذا دخلت الحرم فتناول من الإذخر فامضغه» وكان يأمر أم فروة بذلك(33).
رواياتها
وقد روت هذه السيدة الجليلة عن أهل البيت (عليهم السلام)روايات عديدة، منها ما روته عن الإمام السجّاد (عليه السلام) حيث قال لها:
«يا اُمّ فروة إني لأدعو الله(34) لمذنبي شيعتنا في اليوم والليلة ألف مرة، لأنّا نحن فيما ينوبنا من الرزايا نصبر على ما نعلم من الثواب، وهم يصبرون على ما لا يعلمون»(35).
رعايتها
كان الإمام الصادق (عليه السلام) يهتم برعاية زوجته أم فروة، وقد اشترى لها خادمة لكي تعينها في أمور البيت.
قال أبو عبد الله (عليه السلام) لإسماعيل حبيبه وحارث البصري: «اطلبوا لي جارية من هذا الذي تسمونها كدبانوجة(36) مسلمة تكون مع أم فروة».
فدلوه على جارية كانت لشريك لأبي من السراجين فولدت لـه بنتا ومات ولدها، فأخبروه بخبرها فاشتروها وحملوها إليه، وكان اسمها رسالة فحول اسمها فسماها سلمى وزوجها سالم فهي أم حسين بن سالم.
وفي بعض الروايات أن مولاتها كانت (سعيدة).
في التهذيب عن الحسين بن مسلم قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) إذ جاءه محمد بن عبد السلام، فقال له: جعلت فداك يقول لك جدي: إن رجلاً ضرب بقرة بفأس فسقطت ثم ذبحها؟
فلم يرسل معه بالجواب، ودعا سعيدة مولاة أم فروة فقال لها: «إن محمد جاءني برسالة منك، فكرهت أن أرسل إليك بالجواب معه، فإن كان الرجل الذي ذبح البقرة حين ذبح خرج الدم معتدلاً فكلوا وأطعموا، وإن كان خرج خروجاً متثاقلاً فلا تقربوه»(37).

   dr. Sajid Sharif Atiya  سجاد الشمري 


(1) الكافي: ج1 ص473 باب مولد أبي عبد الله جعفر بن محمّد (عليه السلام) ح1.
(2) الكافي: ج3 ص217 باب ما يجب على الجيران لأهل المصيبة واتخاذ المأتم ح5.
(3) بحار الأنوار: ج29 ص651.
(4) الكافي: ج1 ص473 باب مولد أبي عبد الله جعفر بن محمّد (عليه السلام) ح1.
(5) نهج البلاغة، الرسائل: 34، ومن كتاب لـه (عليه السلام) إلى محمد بن أبي بكر. وانظر بحار الأنوار: ج33 ص540 ب30 ح720.
(6) أي والدة محمد بن أبي بكر.
(7) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج6 ص91-92 ولاية محمد بن أبي بكر على مصر.
(8) انظر تهذيب الأحكام: ج10 ص232 ب18 ح49.
(9) انظر تهذيب الأحكام: ج10 ص232 ب18 ح49.
(10) بحار الأنوار: ج22 ص330 ب10 ح39.
(11) بحار الأنوار: ج22 ص342 ب10 ضمن ح52.
(12) الإرشاد: ج2 ص393 خبر وفاة أبي بكر ومعاذ بن جبل.
(13) الغارات: ج1 ص195، ورود قتل محمد بن أبي بكر على علي (عليه السلام).
(14) بحار الأنوار: ج33 ص563 ب30.
(15) بحار الأنوار: ج33 ص566 ب30 ضمن ح722.
(16) بحار الأنوار: ج33 ص589 ب30 ضمن ح734.
(17) نهج البلاغة، قصار الحكم: ح325.
(18) نهج البلاغة، الكتب: 35.
(19) سورة النحل: 125.
(20) بحار الأنوار: ج33 ص589 ب30 ح723.
(21) بحار الأنوار: ج33 ص584 ب30 ح727.
(22) انظر الاختصاص: ص70 محمد بن أبي بكر.
(23) بحار الأنوار: ج33 ص585 ب30 ح731.
(24) راجع بحار الأنوار: ج34 ص271 ب34.
(25) رجال الكشي: ج1 ص63 محمد بن أبي بكر ح112.
(26) راجع بحار الأنوار: ج33 ص271 ب20 ح520.
(27) المناقب: ج3 ص62 فصل في أنه (عليه السلام) مع الحق والحق معه.
(28) سورة الحج: 52.
(29) راجع بحار الأنوار: ج43 ص55 ب3 ح48.
(30) انظر بحار الأنوار: ج42 ص162 ب124 ضمن ح33.
(31) بحار الأنوار: ج45 ص330 ب48 ضمن ح3.
(32) الكافي: ج4 ص428 باب نوادر الطواف ح6.
(33) الكافي: ج4 ص398 باب دخول الحرم ح3.
(34) أي استغفر.
(35) الكافي: ج1 ص473 باب مولد أبي عبدالله جعفر بن محمّد (عليه السلام) ح1.
(36) كدبانوجة: معربة (كدبانو) أي المرأة التي تدير البيت وتقوم بشوؤنها من الطبخ وما أشبه.
(37) تهذيب الأحكام: ج9 ص56 ب1 ح236.