بسم الله الرحمن الرحيم
القرآن الكريم حقيقة عروبته وسيلة من وسائل الترابط والوحدة
إن القرآن الكريم هو الذي وحَّد اللهجات العربية في بوتقة واحدة , فتحصنت اللغة العربية , ثم جاء المغول ليخنقوها , وقذفوها في مياه دجلة , إلا أنها لم تختنق ولم تغرقها مياه دجلة العارمة , فهبت اللغة العربية منتصبة على قدميْها .
وجاء ( نابليون ) يريد محوها ودفنها , فلم يستطع وأعلنت العربية عن وجودها .
وجاءت حركة ( الاتحاد والترقي ) في العهود الأخيرة من عمر الخلافة العثمانية , يريدون الكيد منها , فباءوا بالفشل الذريع .
وعقدت مؤتمرات ( باريس ) لمحو اللغة العربية من أرض الجزائر , فما استطاعوا أن يطفئوا نار حقدهم , هذه اللغة العظيمة , أي شيء أكسبها هذا الخلود والبقاء , لا شك
ولا ريب إنه كتاب الله ( القرآن الكريم .
ولهذا نفهم كلام العرب الذي قالوه قبل عشرات القرون , بينما الفرنسيون والإنكليز وغيرهم لا يستطيعون أن يفهموا ما كُتب قبل أربعمائة عام , إلا بجهد جهيد , وبالاستعانة بالمعجمات لحل غموض اللغة التي يسمونـها ( الكلاسيكية ) أو ( القديمة ) بعد أن تغيرت قواعدها , على عكس العربية .
لقد أكد القرآن الكريم حقيقة عروبته في آيات كثيرة , منها قوله تبارك وتعالى :
(إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)[1] , وقوله :(ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون، قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون)[2], وقوله أيضاً :(كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون)[3].
ومع تأكيد القرآن هذه الحقيقة فقد نفى أن يكون فيه لسان غير عربي .
قال الإمام الشافعي :
فأقام [ الله سبحانه وتعالى ] حجته بأن كتابه عربي في كل آية ذكرناها , ثم أكد ذلك بأن نفى عنه ـ جل ثناؤه ـ كل لسان غير لسان العرب في آيتين من كتابه )[4]:
فقال الله تعالى :(ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين)[5], وقال الله تعالى :(ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي)[6].
فالقرآن الكريم لم يخرج من مألوف العرب في لغتهم العربية , من حيث المفردات والجمل, فمن حروفهم تألفت كلماته , ومن كلماته ركبت جمله , ومن قواعدهم صيغت مفرداته, وتكونت جمله , وجاء تأليفه , وأحكم نظمه , فكان عربياً جارياً على أساليب العرب وبلاغتهم , ولكنه أعجزهم بأسلوبه وبيانه ونظمه الفذ , إلى جانب نفوذه الروحي , وأخباره بالغيوب , ومعانيه الصادقة , وأحكامه الدقيقة العادلة , والصالحة للتطبيق في كل زمان ومكان , وهو الكتاب الوحيد الذي تحدى منزله ـ جل جلاله ـ البشر كافة أن يأتوا بمثله .
كما يجب علينا أن نلاحظ أن القرآن الكريم , لم يعبر بكلمة (لغة) , وإنما عبر بـ(اللسان) بمعنى اللغة .
قبل نزول القرآن الكريم كان العرب يتكلمون اللغة العربية بالسليقة والسجية , فصيحة معربة , سليمة من اللحن والاختلال , ولم تكن لها قواعد مدونة , والنحو المدون لم يظهر حتى ظهر نور الإسلام , ونزل به القرآن , فخرج جيل الفتح الأول داعين إلى توحيد الله, مبشرين بدينه , حاملين كتابه بلسان عربي مبين , فانتشرت العربية بانتشار الإسلام , وكتب العلماء المسلمون من غير العرب أكثر من علماء العرب , وبذلك أصبحت العربية عالمية مقدسة , ومنتشرة في كثير من أقطار الأرض .
لقد كان للغة العربية ـ بفضل الإسلام ـ أنصار ومحبون من غير العرب, وكان لها منهم علماء وأعلام عرَّبـهم الإسلام , حتى كان منهم أصحاب المؤلفات الرائعة , في قواعد اللغة العربية وفي بلاغة القرآن الكريم.
بل إن أعظم كتاب في النحو العربي هو كتاب سيبويه الفارسي .
ومن أعظم كتب العربية وفقهها (الخصائص) لأبي الفتح عثمان بن جني الرومي اليوناني.
وأشهر وأوثق
مرجع لغوي في العربية (القاموس المحيط) لأبي طاهر محمد بن يعقوب الشيرازي
الفيروزابادي وهو هندي .
وأشهر كتب إعجاز القرآن الكريم وأفضلها , مؤلفوها من غير العرب , نذكر منهم :
أحمد بن محمد الخطابي البستي الأفغاني.
وأبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني.
وعبد القاهر ابن عبد الرحمن الجرجاني.
وغيرهم كثير , ألفوا الكتب في مختلف الدراسات القرآنية, وفروع العربية وآدابها[7].
وهكذا صاروا مضرب الأمثال ,حتى أصبحنا إذا أردنا مدح أحد من علماء العرب , ألحقناه بأحدهم وشبهناه به فقلنا : فلان سيبويه عصره , أو زمخشري زمانه .
لقد أصبحت اللغة العربية , لغة الدين الحق الذي يؤمن به مئات الملايين من الناس خارج الوطن العربي , ويغارون عليها , ويفضلونها على لغاتهم الأولى , ويرون أنها أفضل اللغات وأحقها بالحياة , وهي أقوى وسيلة من وسائل الترابط والوحدة بين العرب أنفسهم , وبينهم وبين المسلمين الذين يتكلمون بها في البلاد الإسلامية , وهي أقوى من رابطة النسب والدم , لأن الدم لا يمكن استصفاؤه بسبب التصاهر والتزاوج , والعربية بما تحمله من رسالة هذا الدين وكتابه , هي أساس العلاقات الحضارية والثقافية والاجتماعية بين العرب والمسلمين , بها تتوحد أساليب التفكير والتعبير , ويمكن التفاهم والتعاون على البر والتقوى , ونصرة الإسلام , وهي الحصن الحصين الذي يحول دون احتلال عقول أبنائها بآراء وأفكار وافدة .
ولقد بلغ من حب السلف الصالح للغة العربية , وإعجابهم بعبقريتها , أن قال أبو الريحان البيروني :
(والله لأن أُهجَى بالعربية أحب إلي من أن أمدح بالفارسية)[8].
تلك من بعض حكمة الباري ـ جل جلاله ـ الذي أرسل كل رسول بلسان قومه , ولغة أمته التي بعث إليها , لدعوتها إلى الله باللسان الذي تفهم به وليكون لبيان الرسول أثر وتأثير , قال الله تبارك وتعالى :(وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) [9] .
ولما كانت رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم خاتمة وعامة , فقد وجب على جميع الناس والأمم الإيمان به واتباعه , ولا يكمل دين المرء إلا بتلاوة شيء من الكتاب العربي الذي أنزله الله تعالى , مما يجعل لغته لغة أتباعه وأمته , وأمة العروبة ليست أمة بالنسب والدم فقط , وإنما من تكلم العربية فهو عربي اللسان والثقافة والانتماء , وقد كان العرب يقولون : كل من سكن بلاد العرب وجزيرتـها ونطق بلسان أهلها ، فهم عرب[10].
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : جاء قيس بن مطاطية إلى حلقة فيها صهيب الرومي وسلمان الفارسي وبلال الحبشي , فقال : هذا الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل , فما بال هؤلاء ؟
فقام معاذ بن جبل , فأخذ بتلابيبه ثم أتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بمقالته , فقام النبي صلى الله عليه وسلم مغضباً يجر رداءه , حتى دخل المسجد ثم نودي :
إن الصلاة جامعة , فصعد المنبر فحمد الله وأثنى
عليه ثم قال : أما بعد :
أيها الناس إن الرب رب واحد , والأب أب واحد , والدين دين واحد , وإن العربية ليست لأحدكم بأب ولا أم , إنما هي لسان , فمن تكلم بالعربية فهو عربي , فقام معاذ بن جبل فقال : بم تأمرنا في هذا المنافق ؟
فقال : دعه إلى النار , فكان قيس ممن ارتدَّ فقتل في الردة[11].
أيها الناس إن الرب رب واحد , والأب أب واحد , والدين دين واحد , وإن العربية ليست لأحدكم بأب ولا أم , إنما هي لسان , فمن تكلم بالعربية فهو عربي , فقام معاذ بن جبل فقال : بم تأمرنا في هذا المنافق ؟
فقال : دعه إلى النار , فكان قيس ممن ارتدَّ فقتل في الردة[11].
إذن العربية ليست بالولادة ولا بالنسب والسلالة , وإنما بالكلام , فمن تكلم العربية فهو عربي !
ولذلك استطاعت العربية أن تجمع تحت رايتها أمماً وأنساباً وأعراقاً ودماء شتى ممن يدينون بالإسلام .
ثم إن علوم العربية الرئيسية , وهي علم اللغة والنحو والصرف والبلاغة بأقسامها الثلاثة , الفضل الأول في نشأتها ونموها واستمرارها يرجع إلى القرآن الكريم , وحرص المسلمين الشديد على المحافظة عليه , والدفاع عنه , وبيان إعجازه , ولما فزع العرب من انتشار اللحن في العربية , هبّوا لتقنين العربية بابتكار النحو لدرء الخطر عنه , وتعليم الداخلين في الإسلام العربية مقعّدة ومبوَّبة , ثم كان ابتكار نقط الإعراب الذي تطور إلى الشكل المعروف(الفتحة والكسرة والضمة والسكون ) .
ولقد اشترط علماء الإسلام على من يريد تفسير القرآن الكريم , أن يكون واسع العلم بالعربية وأساليبها وعلومها وعلوم الإسلام التي منها علوم القرآن , لاستنباطها منه , ونشأتها في رحابه , واستمرار الحياة لها بحفظه , قال مجاهد : (لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر , أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالماً بلغات العرب)[12].
وقال الإمام مالك :(لا أوتى برجل غير عالم بلغات العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالاً )[13].
وقال الإمام الشافعي : ( فإن قال قائل : ما الحجة في أن كتاب الله محض بلسان العرب لا يخلطه فيه غيره ؟
فالحجة فيه كتاب الله , قال الله تعالى :(وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه)[14].
فإن قال قائل : فإن الرسل قبل محمد كانوا يرسلون إلى قومهم خاصة , وإن محمد بعث إلى الناس كافة , فقد يحتمل أن يكون بُعث بلسان قومه خاصة , ويكون على الناس كافة أن يتعلموا لسانه وما أطاقوا منه , ويحتمل أن يكون بُعِث بألسنتهم , فهل من دليل على أنه بُعث بلسان قومه خاصة دون ألسنة العجم ؟؟
فإن كانت الألسنة مختلفة بما لا يفهمه بعضهم عن بعض , فلا بد أن يكون بعضهم تبعاً لبعض , وأن يكون الفضل في اللسان المتبَّع على التابع , وأولى الناس بالفضل باللسان , مَن لسانُه لسان النبي , ولا يجوز _ والله أعلم _ أن يكون أهل لسانه أتباعاً لأهل لسان في حرف واحد , بل كل لسان تبع للسانه , وكل أهل دين قبله عليهم اتباع دينه , وقد بيَّن الله ذلك في أكثر آية من كتابه , قال الله تعالى :
(وإنه لتنزيل رب
العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين
بلسان عربي مبين)
[15]
وقال:( وكذلك
أنزلناه حكماً عربياً)[16]
وقال :(وكذلك
أوحينا إليك قرآناً
عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها)[17].
وقال الشافعي أيضاً : ( وإنما بدأت بما وصفت من أن القرآن نزل بلسان العرب دون غيره , لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب , وكثرة وجوهه , وجماع معانيه وتفرقها , ومن عَلِمَه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها)[18].
وقال الشافعي أيضاً : ( وإنما بدأت بما وصفت من أن القرآن نزل بلسان العرب دون غيره , لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب , وكثرة وجوهه , وجماع معانيه وتفرقها , ومن عَلِمَه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها)[18].
واللغة العربية أيضاً , لغة الغنى والثراء والسعة , قال الإمام الشافعي : (لسان العرب أوسع الألسنة مذهباً , وأكثرها ألفاظاً , ولا نعلمه يحيط بجميع علمه نبي , ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها حتى لا يكون موجوداً فيها )[19].
فلا يمكن لأحد إحصاء جميع الألفاظ العربية , مهما بلغ في اللغة شأواً بعيداً , وفي اللغة العربية كثير من الأسماء لمسمى واحد , كأسماء الأسد والحية والعسل , وممن ألف في المترادف , العلامة مجد الدين الفيروز أبادي صاحب ( القاموس ) , ألف فيه كتابا سماه : ( الروض المسلوف فيما له اسمان إلى ألوف ) , وأفرد خلقٌ من الأئمة كتباً في أسماء أشياء مخصوصة , فألف ابن خالويه كتاباً في ( أسماء الأسد ) , وكتاباً في ( أسماء الحية ), ذكر أمثلة من ذلك ( العسل ) له ثمانون اسماً , أوردها صاحب ( القاموس ) في كتابه الذي سماه : ( ترقيق الأسل لتصفيق العسل)[20].
والعجب كل العجب من أولئك الذين يشكون من فقر اللغة العربية , وعجزها عن مواكبة العصر , والتطوُّر العلمي الهائل , ولله در الشاعر العربي حافظ إبراهيم , الذي قال على لسان العربية :
كما أن اللغة العربية لغة اشتقاقية , تقوم على أبواب الفعل الثلاثي , لذلك فإن خزائنها من المفردات يمكن أن تزداد دائماً , وكل الكلمات المشتقة من أصل ثلاثي معها المعنى الأصلي , بخلاف غيرها من اللغات , فالاشتقاق من أبرز هذه اللغة وخصائصها , وهو ثابت عن الباري سبحانه وتعالى .
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه , أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : ( أَنَا الرَّحْمَنُ , خَلَقْتُ الرَّحِمَ , وَشَقَقْتُ لَهَا مِنْ اسْمِي اسْمًا , فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ , وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ)[21].
وعدد الألفاظ المستعملة من اللغة العربية :
خمسة ملايين وتسعة وتسعون ألفاً وأربعمائة
لفظ , من جملة ستة ملايين وستمائة وتسعين ألفاً وأربعمائة لفظ ؟
بينما نجد غيرها من اللغات الأوربية لا يبلغ عدد
مفرداتها معشار ما بلغته مفردات العربية[22].
واللغة العربية لغة الفصاحة والبيان ، قال الفارابي في (ديوان الأدب):
(هذا اللسان كلام أهل الجنة ,وهو المنـزه من بين الألسنة من كل نقيصة , والمعلى من كل خسيسة , والمهذب ما يستهجن أو يستشنع , فبنى مباني باين بها جميع اللغات من إعراب أوجده الله له , وتأليف بين حركة وسكون حلاَّه به , فلم يجمع بين ساكنَيْن , أو متحركَيْن متضادَّيْن , ولم يلاق بين حرفَيْن لا يأتلفان ولا يعذب النطق بهما أو يشنع ذلك منهما في جرس النغمة وحس السمع , كالغين مع الحاء , والقاف مع الكاف , والحرف المطبق مع غير المطبق , مثل تاء الافتعال ,و الصاد مع الضاد في أخوات لهما , والواو الساكنة مع الكسرة قبلها , والياء الساكنة مع الضمة قبلها , في خلال كثيرة من هذا الشكل لا تحصى )[23].
واللغة العربية ناضجة , ومرنة , وينطبق هذا على نحوها ومفرداتها وتراكيبها وسماتها الدلالية , فلا يكون المتكلم بالعربية ملزماً بترتيب عقيم للكلمات , كالمتكلم بالإنكليزية , فإنه يتبع ترتيباً معيَّناً :
( فاعل _ فعل _ مفعول به )
فإذا أردت أن تقول : ( أكل زيد لحماً ) يجب أن
يكون الترتيب : ( زيد أكل لحماً ) , ولا يجوز أن تقول :
( أكل زيد لحماً
) ولا ( لحماً أكل زيد ) ولا ( أكل لحماً زيد )
بينما يجوز في اللغة العربية أن تقول كل هذه
الصيغ , وذلك لوجود علامات الإعراب التي تلحق أواخر الكلمات , وتميز الفعل من الفاعل
والمفعول به , ونظام الإعراب هذا يدل على المرونة التي تتميز بها اللغة العربية
.
وللغة العربية تأثيرها الفعَّال في اللغات الأوربية , كالإسبانية مثلاً , فإنه يوجد في اللغة الإسبانية ما يزيد على / 2500 / كلمة من أصل عربي , ومعظم الكلمات الإسبانية المبدوءة بأل هي من أصل عربي , وكثير من المصطلحات العلمية الأوربية هي من أصول عربية وضعها العرب , وبقيت في تلك اللغات دون أن يكون لها مرادفات لاتينية أو إسبانية .
وإذا قابلنا اللغة العربية بلغات العالم الأخرى , لوجدناها أنها اللغة السادسة من حيث عدد المتكلمين بها , كما أنها اللغة الأكثر انتشاراً في أفريقيا وغرب آسيا , لكونها اللغة الدينية لأكثر من مليار مسلم .
لقد خاضت اللغة العربية صراعات عنيفة في القرون الأولى للإسلام , وانتصرت عليها , وحلت محلها في ميادين الدين والأدب والعلم , وكادت أن تتعرب الشعوب الإسلامية كلها , إلا أنها لاقت صعوبات جمة من الشعوبية التي تعادي العرب , وتحتقر آدابهم , من أولئك الذين لم يتمكن الإسلام من نفوسهم , حتى تركت اللغة مكانها في مواطن كثيرة من أرض الإسلام , وها هو الشاعر العربي المتنبي , حينما مرَّ بشِعب بَوَّان[24] من أرض فارس ( إيران ) , أحسَّ بغربة اللسان والانتماء والوجود فقال :
ولكن العربية بقيت لغة الدين الإسلامي , وعلماء العربية يحرصون عليها ويدافعون عنها , ويتضح ذلك في قول أبي القاسم محمود الزمخشري الخوارزمي , في مقدمة كتابه (المفصل):
( اللهَ أحمد على أن جعلني من علماء العربية , وجبلني على الغضب للعرب والعصبية , وأبى لي أن أنفرد عن صميم أنصارهم وأمتاز , وأنضوي إلى لفيف الشعوبية وأنحاز , وعصمني من مذهبهم الذي لم يجد عليهم إلا الرشق بألسنة اللاعنين , والمشق بأسنة الطاعنين )[26].
ولا شك أيضاً أن القرآن الكريم بانتقاله مشافهة متواترة , حفظ للعربية أصوات حروفها , وضبط لها مخارجها وأحكام نطقها , وقامت بين اللغة العربية والإسلام صلات وصلات يكثر تعدادها , ويصعب حصرها , فلا إسلام بلا قرآن , كما أنه لا قرآن بغير اللغة العربية , وليس صادقاً في ادّعائه القومية العربية , من لم يدْعه إخلاصه للغة العربية , وصدقه في حبها , إلى العناية بالقرآن الكريم وهو كتابها الأكبر , ونموذج أدبها المعجز , إنه منها صوته وصورته .
ولقد دوَّت أبواق الباطل في كل مكان , رافعة عقيرتها , وناعقة بالتمرد على اللغة العربية و تفتيتها وتمزيقها ـ والهدف هو القضاء على القرآن ـ لأن القرآن عربي , والعربية لغة القرآن, وارتباط كتاب سماوي منزَّل بلغة بعينها , أمر لا يعرف إلا لهذا الدين وهذه اللغة العربية وقد قال الله تبارك وتعالى :( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[27].
لقد شدَّ الإسلام أقواماً غير عرب إلى لغة العرب , ونشر اللغة العربية في بلاد لم يكن لها فيها نصير, ولا للعرب فيها سلطان , ولقد خرجت اللغة العربية من جزيرة العرب مع الفتح الإسلامي فإذا هي لغة أهل الشام والعراق ومصر وغيرها , وإذا بها تتعدَّى كونها لغة دين إلى لغة شعب ودولة .
ولا زال للإسلام أثره في نشر اللغة العربية , والحفاظ عليها في بلاد غير عربية , وأثره يفوق كثيراً آثار المراكز الثقافية التي نراها اليوم منتشرة في بلدان العالم , ثم إن أصحاب هذه المراكز, ينفقون الأموال الطائلة في سبيل الدعاية لمراكزهم وثقافتهم ونشر لغتهم , على حين أن الإسلام يجعل من البلاد التي ينتشر فيها , شعوباً راغبة في تعلم لغته , وما أكثر ما نسمع أصواتاً ترتفع في تلك البلاد , مطالبة بإرسال المدرسين العرب لتعليم اللغة العربية , أو مطالبة بقبول أبنائها في مدارس البلاد العربية , ليتعلموا اللغة العربية .
لقد استهوى الإسلام أقواماً فحبب إليهم لغته , بل كان الفضل عظيماً للإسلام في ظهور عدد لا يحصى من العلماء غير العرب , الذين بلغوا القمة في لغة العرب وعلومها من نحو وصرف وبلاغة, وهذا سيبويه , يقسم ليطلبنَّ علماً يزيل عنه اللحن , فانصرف إلى طلب النحو , ولم يكن من غرضه وقصده تعلم اللغة العربية , وإنما كان يريد علماً يفقهه في الدين .
فقد رووا أن سبب تعويله على الخليل في طلب النحو مع ماكان عليه من الميل إلى التفسير والحديث , فإنه سأل يوماً حماد بن سلمة فقال له :
أحدثك هشام بن عروة عن أبيه في رجل رعُف في الصلاة ( بضم العين ) ؟
فقال لـه حماد : أخطأتَ إنما هو رعَف ( بفتح العين ) , فانصرف إلى الخليل فشكا إليه ما لقيه من حماد
فقال لـه الخليل : صدق حماد ، ومثل حماد يقول هذا , ورعُف بضم العين لغة ضعيفة .
وقيل : إنه قدم البصرة من البيداء من قرى شيراز من عمل فارس , وكان مولده ومنشؤه بـها, ليكتب الحديث ويرويه فلزم حلقة حماد بن سلمة, فبينما هو يستملي على حماد قول النبي صلى الله عليه وسلم :
ليس من أصحابي إلا من لو شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء .
فقال سيبويه : ليس أبوالدرداء ( بالرفع ) وخمنه اسم ( ليس )
فقال لـه حماد : لحنت يا سيبويه , ليس هذا حيث ذهبت , إنما ( ليس ) ههنا استثناء
فقال سيبويه : سأطلب علماً لا تلحنني فيه, فلزم الخليل وبرع في العلم[28].
لقد خرجت لغة الدين الحق الذي يؤمن به الملايين من الناس , خارج وطنها الأصلي, ويغارون عليها, ويفضلونها على لغتهم الأولى, ويرونـها أفضل اللغات , وأحقها بالحياة, خرجت إلى الدنيا, وأصبحت عالمية مقدسة, لأنـها لغة القرآن الكريم, وهي من أقوى وسائل الترابط بين العرب والمسلمين , لذلك استطاعت اللغة العربية أن تجمع تحت رايتها أمماً وأنساباً وأعراقاً ودماء شتى ممن يدينون بالإسلام .
خرجت لغة العرب من لغة قوم إلى لغة أقوام , ومن لغة محدودة بحدود أصحابـها , إلى لغة دعوة جاءت إلى البشر كافة , فكانت لسان تلك الدعوة , ولغة تلك الرسالة , ومستودع ما نتج من تلك الرسالة من فكر وحضارة .
لقد عرف العرب كمال لغتهم في القرآن الكريم فاجتمعوا عليه , وأجمعوا على إعجازه , ولو لم يجتمعوا عليه لزاد ما بين لهجاتـهم من تباين واختلاف , ولازدادوا بُعداً عن فصاحة لسانـهم ووحدة لغتهم , تلك الوحدة اللغوية هي التي نزل القرآن فرسخها وأرسى قواعدها , ولو لم يوطد القرآن لهذه اللغة الموحدة أسبابـها , ويرسخ لها بنيانـها, لكان لها من لهجاتـها القديمة والحديثة وما تتأثر به من عوامل مختلفة , لغات ولغات .
ومما لا شك فيه
أيضاً أن القرآن الكريم بانتقاله مشافهة ومتواترة , حفظ للغة العربية
أصوات حروفها, وضبط مخارجها وأحكام نطقها , فحرف الجيم مثلاً في الشام غيرها في مصر , ولكن إذا رتَّل
الشامي والمصري القرآن الكريم عاد الحرف إلى مخرجه الأصلي الصحيح , وأداه بصفاته
وأحكامه .
لقد قامت بين اللغة العربية والإسلام صلات وثيقة يكثر تعدادها , ويصعب حصرها , فلا إسلام بلا قرآن , ولا قرآن بغير اللغة العربية , والعربية أقرب الطرق الموصلة إلى فهم الإسلام, وإدراك معانيه ومقاصده من منابعه العربية الأصيلة .
لذا لما أدرك الأذكياء من أعدائنا , أعداء العرب والمسلمين , أن الإسلام اتخذ العربية لساناً له, راحوا يصبون جام غضبهم وحقدهم على الإسلام وذلك بالطعن في اللغة العربية , يريدون أن يهدموا الجسر المؤدي بأهلها إليه , فكم من سهم وُجِّه إلى العربية ولا يراد به إلا الإسلام .
يقول الحاكم الفرنسي في الجزائر بمناسبة مرور مائة عام على احتلالها :(يجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم .... ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم, حتى ننتصر عليهم)[29].
إنـهم لا يرون الخطر الحقيقي إلا في الإسلام , لأنه لا يوجد مكان على وجه الأرض
إلا وقد اجتاز الإسلام حدوده وانتشر فيه , فهو الدين الوحيد الذي يميل الناس إلى اعتناقه , ومنذ أن ظهر في مكة لم يضعف عددياً , بل إن أتباعه يزدادون باستمرار .
إن الاستعمار بعد أن يئس أن تكون لـه ركائز في أرضنا , فكَّر وقدَّر , فقتل كيف قدَّر, ثم نظر, ثم تقدَّم وتطوَّر , واقتنع أن تكون له ركائز في أفكارنا , ووجد ذلك أسهل عليه وأخفى علينا, وأخذ يبثُّ سمومه وأفكاره , كلام في ظاهره الحرص على الإصلاح , ومن باطنه الحقد المتسعِّر والبغض الدفين .
وواجب العقلاء والمفكرين وحملة الأقلام المؤمنة , أن يؤدوا لهذه الأمة حقها من حصيلة عقولهم وأفكارهم وأقلامهم , إن لكل شيء زكاة , وزكاة العقل والفكر والقلم أن يقول كلمة الحق ويظل مرابطاً يتصدَّى للباطل , وإذا جاهد من يستطيع الجهاد بالنار والحديد , أو بالمال والعتاد, أفلا يجاهد صاحب الفكر والقلم بكلمة حق يقولها ؟ !
إن ضياء كلمة الحق ليس بأضأل من وهج الدماء المتدفقة من جروح الشهداء .
ثم إن الإقلال من ساعات تدريس القرآن الكريم في مدارسنا , سهم مسموم, موجَّه إلى اللغة العربية, قبل أن يكون سهماً إلى العقيدة الإسلامية , لذلك نرى طفل اليوم يتجاوز المرحلة الابتدائية والإعدادية والثانوية , ثم يأخذ مكانه في مدرجات الجامعة وهو لا يزال يتعثر العثرات المتوالية في تلاوة القرآن الكريم , ولأجل هذا كله أخذ مستوى إتقان اللغة العربية, وتذوق آدابها ينحط تدريجياً في مختلف مراحل الدراسة[30].
إن الذين لا يولون القرآن كبير عناية , في عروبتهم نقص كبير , فبين العربية والقرآن أواصر لا تقطع, وصلات لا تدفع, ولا يطعن في العربية باسم الإسلام إلا شعوبي , ولا يطعن في الإسلام باسم العربية إلا جاهل أو غبي .
هذه اللغة العربية الخالدة والمشرقة , أي شيء أكسبها هذا الخلود وهذا الإشراق ؟
لا ريب أن كل عربي سواء كان مسلماً أو غير مسلم , وكل مسلم عربياً كان أو أعجمياً, يعلم الجاذبية التي سرت في هذه اللغة , فأكسبها الديمومة والبقاء , هذه الجاذبية والروح الجبارة هي القرآن الكريم, إنه قطب الرحى للأمة الإسلامية .
إن القرآن الكريم قد مدَّ سلطان اللغة العربية على منطقة من أوسع مناطق الدنيا , واخترق بها قارات ثلاثاً هي : آسيا وأفريقيا وأوربا ( الأندلس ), وجعل العربية هي اللغة العالمية المشتركة المنشودة , فكل مسلم يشعر أن العربية لغته لأن القرآن قد نزل بـها .
dr. Sajid Sharif Atiya سجاد
الشمري
المصادر
والهوامش …………..
1
ـ يوسف : 2 .
2 ـ الزمر : 27 .
3 ـ فصلت : 3 .
4 ـ الرسالة للإمام الشافعي : 1 / 47 .
5 ـ النحل : 103 .
6 ـ فصلت : 44 .
7ـ انظر دراسات إسلامية : 91 منشورات الدعوة الإسلامية العالمية ـ بحث ( القرآن واللغة العربية ) د . إبر8اهيم عبد الله رفيدة
8ـ نحو وعي لغوي , د . مازن المبارك , الصفحة : / 19 / .
9ـ إبراهيم : 4 .
10ـ لسان العرب لابن منظور مادة ( عرب ) .
11ـ اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ، لأحمد بن تيمية الحراني : 1 / 169 .
12ـ الإتقان في علوم القرآن للسيوطي : 2 / 477 .
13ـ شعب الإيمان للإمام البيهقي : 2 / 425 برقم / 2287 / .
14ـ إبراهيم : 4 .
ـ 15الشعراء : 192 ـ 193 ـ 194 ـ 195 .
ـ 16الرعد : 37 .
ـ 17الشورى : 7 .
ـ 18الرسالة للإمام الشافعي : 1 / 45 ـ 46 / .
ـ 19المصدر نفسه : 1 / 50 .
20 ـ المصدر نفسه : 1 / 42 .
21 ـ المزهر في علوم اللغة وأنواعها للسيوطي : 1 / 320 .
22 ـ رواه الإمام أحمد في مسنده برقم : / 1589 / .
23ـ مجلة الفيصل العدد / 255 / رمضان 1418 هـ , اللغة العربية بعض خصائصها , شهادات أجنبية بأهميتها , محمد نعمان الدين الندوي , الصفحة : / 70 / .
24 ـ المزهر في علوم اللغة وأنواعها للسيوطي : 1 / 272 .
25 ـ شعب بوان : من أرض فارس وهو أحد المواضع المتنزهة المشتهرة بالحسن وكثرة الأشجار وتدفق المياه وكثرة أنواع الأطيار .اهـ معجم البلدان .
26 ـ معجم البلدان لياقوت الحموي : 1 / 504 .
27 ـ المفصل للزمخشري بشرح ابن يعيش : 1 / 5 .
28 ـ الحجر : 9 .
29ـ نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب ، لأحمد بن محمد المقري التلمساني : 4/ 84 ـ 85 والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي : 2 / 67 برقم :
/ 1202 /.
30 ـ قادة الغرب يقولون : دمروا الإسلام أبيدوا أهله , جلال العالم : 50 .
31 ـ انظر نحو وعي لغوي ، د . مازن المبارك : 125 بتصرف .
2 ـ الزمر : 27 .
3 ـ فصلت : 3 .
4 ـ الرسالة للإمام الشافعي : 1 / 47 .
5 ـ النحل : 103 .
6 ـ فصلت : 44 .
7ـ انظر دراسات إسلامية : 91 منشورات الدعوة الإسلامية العالمية ـ بحث ( القرآن واللغة العربية ) د . إبر8اهيم عبد الله رفيدة
8ـ نحو وعي لغوي , د . مازن المبارك , الصفحة : / 19 / .
9ـ إبراهيم : 4 .
10ـ لسان العرب لابن منظور مادة ( عرب ) .
11ـ اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ، لأحمد بن تيمية الحراني : 1 / 169 .
12ـ الإتقان في علوم القرآن للسيوطي : 2 / 477 .
13ـ شعب الإيمان للإمام البيهقي : 2 / 425 برقم / 2287 / .
14ـ إبراهيم : 4 .
ـ 15الشعراء : 192 ـ 193 ـ 194 ـ 195 .
ـ 16الرعد : 37 .
ـ 17الشورى : 7 .
ـ 18الرسالة للإمام الشافعي : 1 / 45 ـ 46 / .
ـ 19المصدر نفسه : 1 / 50 .
20 ـ المصدر نفسه : 1 / 42 .
21 ـ المزهر في علوم اللغة وأنواعها للسيوطي : 1 / 320 .
22 ـ رواه الإمام أحمد في مسنده برقم : / 1589 / .
23ـ مجلة الفيصل العدد / 255 / رمضان 1418 هـ , اللغة العربية بعض خصائصها , شهادات أجنبية بأهميتها , محمد نعمان الدين الندوي , الصفحة : / 70 / .
24 ـ المزهر في علوم اللغة وأنواعها للسيوطي : 1 / 272 .
25 ـ شعب بوان : من أرض فارس وهو أحد المواضع المتنزهة المشتهرة بالحسن وكثرة الأشجار وتدفق المياه وكثرة أنواع الأطيار .اهـ معجم البلدان .
26 ـ معجم البلدان لياقوت الحموي : 1 / 504 .
27 ـ المفصل للزمخشري بشرح ابن يعيش : 1 / 5 .
28 ـ الحجر : 9 .
29ـ نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب ، لأحمد بن محمد المقري التلمساني : 4/ 84 ـ 85 والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي : 2 / 67 برقم :
/ 1202 /.
30 ـ قادة الغرب يقولون : دمروا الإسلام أبيدوا أهله , جلال العالم : 50 .
31 ـ انظر نحو وعي لغوي ، د . مازن المبارك : 125 بتصرف .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق