قائمة المدونات التي اتابعها

الخميس، 7 فبراير 2013

أكبر الإصابات التي لحقت بالعقل المسلم


بسم الله الرحمن الرحيم

مخاطر إغلاق باب الاجتهاد وعجزه عن الوثيقة الستالينية


ولعل من أكبر الإصابات التي لحقت بالعقل المسلم ، وظهرت نتائجها بشكل واضح ،‌وفاضح في الوقت نفسه ، وكانت وراء كل الإصابات والأزمات : إغلاق باب الاجتهاد …
فقد لا يكون من المغالاة أن نقول ك إن إغلاق الاجتهاد ، وتوقيف العقل المسلم ، والحكم على الأمة بالعقم ، والسكتة العقلية ، ومحاصرة خلود الشريعة . وامتدادها ، باجتهاد بشري محدود القدرة والرؤية ، ومحكوم بعوامل الزمان والمكان ، كان وراء‌كل الإصابات العقلية والفكرية والثقافية جميعا التي يعاني منها المسلم اليوم … فعملية تسكير الأبصار ،‌وتوقيف الاعتبار ( المقايسة ، والمناظرة ،‌والشورى ، والحوار ، وتعدية الرؤية ، والإفادة من الماضي لتصويب الحاضر ، واستشراف المستقبل ) ، وإلغاء الامتداد بالتفكير والعطاء ، جعل الأمة عالة على غيرها ، حيث لم يتوق الاجتهاد الفقهي فقط ، الذي توهمنا أننا أغلقنا بابه ، وإنما توقف العقل والمجاهدات الفكرية على مختلف الأصعدة ، وساد الأمة وباء التقليد الجماعي ، والمحاكاة ،‌والاستنقاع الحضاري ، حيث لا يمكن أن نتصور تقدما في جانب من الفكر ، بعد أن أصيب عقل صاحبه بالشلل .
لذلك يمكن القول : بأن الأمر بإيقاف الشريعة عن الامتداد ، بحجة ضعف المؤهلات التي تمكن من الاجتهاد ، وحجه أن الأولين لم يتركوا للآخرين شيئا ، إضافة إلي أنه حجر على فضل الله ، وتنكر لخلود الشريعة ، ومساهمة سلبية في إخلاء ‌الساحة من الاجتهاد والرؤية الإسلامية ، فإنه فسح المجالات للغزو الفكري والقانوني ، والامتداد للثقافات والأفكار الأخرى في هذا الفراغ الرهيب الذي أحدثه إلغاء‌العقل المسلم ، إضافة إلي أننا نعتقد : أن الأمر ليس أقل سوءا من حيث النتيجة من الدعوة إلي إيقاف الشريعة ، وتوقيتها بعصر ماض ، بحجة عدم الصلاحية لهذا الزمان ، الذي نتهم القائلين بذلك بشتى التهم التي يستحقونها شرعا ، لكنا لا ندين أنفسنا … ولا ندري إلي أي مدى يكون قرار إغلاق باب الاجتهاد ذاتيا ،‌وداخليا ، وبعيدا عن تأثير سدنة الاستبداد السياسي والعمالة الفكرية ؟ وإلي أي مدى يحق لنا أن نوقف نصا متواترا ، خالدا ، ممتدا ، باجتهاد ظني مرجوح ؟
فاعتقادنا أن الله الذي أنزل رسالة الإسلام الخالدة ، الخاتمة ، المجردة عن حدود الزمان والمكان ،‌هو أعلم بتقلب الظروف والأحوال، وأن الخلود والخاتمية اللتين تعنيان الامتداد ، والعطاء‌،‌وعدم التوقف ، والإيقاف ، لا تتحققان إلا بالاجتهاد ؛ لذلك نرى أن إيقاف الاجتهاد هو في الحقيقة محل نظر من الناحية الشرعية والعقيدية ، إضافة إلي ما فيه من قضاء‌على العقل ، دليل الوحي ، وحرمان للمسلم من أجري الاجتهاد الصواب ، وأجر الاجتهاد الخطأ‌.
ولعل الأمر الأخطر في هذا الموضوع هو : المناخ الفكري المضطرب ، الذي أشاعه إغلاق باب الاجتهاد ، من التقليد ،‌والتعطيل ، الإرهاب ،‌لكل من يحاول التفكير ، باسم الاتباع ، وعدم الابتداع ، لأنه يحاول العبث بأحكام الشريعة … ولم تقتصر للمفكر بالابتداع ،‌وعدم الاتباع ،‌وإنما تجاوزتها لإطلاق تهم التكفير ، والتجريم ، والتأثيم ، لكل من يحاول التدبر ، والتفكر ، والنظر ، والمقايسة ،‌إلا من بعض اجتهادات ،‌ضمن إطار المذهب نفسه ،‌هي أقرب لفقه التجريد والافتراض ، وأحيانا فقه الحيل الشرعية ، وفقه المخارج ،‌الذي تحكمه الآلية‌الميكانيكية ، منها إلي فقه الواقع ، ووضع الأوعية الشرعية لمساره … فأصبح الفقه عبارة عن تجريدات ذهنية ، وآلية ميكانيكية ، كادت تفوت مقاصد الشريعة ، لو لا بعض الأصوات من هنا وهناك ، التي تشير إلي امتلاك الأمة للإمكان الحضاري ، والقدرة على النهوض ، لأنها تمتلك القيم المحفوظة بالكتاب والسنة … تلك الأصوات التي حاولت التصويب الفقهي ، والخروج عن التجريدات والمباني ، إلي إدراك الحكم ، والمقاصد ، والمعاني . من أمثال : ابن تيمية [1][3] ، وابن القيم [2][4] والشاطبي [3][5] والشوكاني [4][6] وابن عاشور [5][7] وغيرهم .
ويمكن أن نقول بدون أدنى تحفظ : إن إغلاق باب الاجتهاد ، الذي هو محل نظر من الناحية الشرعية‌،‌والفكرية ،‌والعملية ،‌والواقعية‌، كان وراء كل البلايا ،‌والإصابات ، والأزمات المتالحقة‌، التي ألغت العقل المسلم … ولا سبيل إلي استعادة العافية للعقل المسلم ، وليس الباب فقط ، ليتحاور الناس ويتفاكروا ،‌ويتناظروا ،‌ويتشاوروا ، وسوف لا يستقر ، ولا يصح ، ولا يكتب الامتداد ، والأثر الحسن ، إلا الاجتهاد الصحيح … ذلك أن قيم الكتاب والسنة ، هي الحارس … وعصمة عموم الأمة ، هي صمام الأمان من الانحراف ،‌ولا تتحقق تلك العصمة ، ولا يمكن الوصول إليها بدون الحرية ،‌والشورى ،‌والاجتهاد … لذلك ، لا بد من تحطيم حاجز الخوف من التفكير ، وإقناع الناس علميا ، أن الله لم يثب على الخطأ ، إلا في مجال إعمال العقل .
والأمر في حقيقته ، أبسط بكثير ، مما أثارته وتثيره أصوات الرعب ، والتخويف ، التي حذرت منه …فالاجتهاد لا يخرج عن أن يكون رأيا بشريا ، يسري عليه الخطأ‌والصواب ، ويؤخذ منه ويرد ،‌وليس نصا دينيا ، يلغي حكما ، أو يعبث بالدين … وقد تكون المشكلة كلها ، في اختلاط الموقف ،‌بين قدسية النص الديني ،‌وبين بشرية الاجتهاد .
والخطأ‌طريق الصواب ، أو هو الطريق الآخر الدال على طريق الوصول إلي الحقيقة ، وذلك عندما نتعلم كيف نفكر ، وكيف نختلف أيضا ، وكيف نتحاور ، ونتشاور ، للوصول إلي الصواب.
والناظر في الواقع الإسلامي اليوم ، يجد كثيرا من الفتاوى ، والآراء الفقهية ، لم تكتب لها الحياة ، بينما نجد أخرى ،‌استطاعت أن تثبت وجودها ، وصوابها ، وتحقق مقاصد الشرع ، في معركة الحياة … فإذا كان الاجتهاد محرما ،‌وبابه مغلقا ، خوفا من الخطأ والانحراف ،‌وعندنا القيم القرآنية ، والحديثية ، والضابطة للمسيرة ، وعندنا عصمة‌عموم الأمة ، وعدم تواطئها على الخطأ‌، الأمر الذي لا يمكن تحقيقه إلا في أجواء الحرية ، والحوار ،‌والشورى كما أسلفنا فكيف سيكون حال الأمم الأخرى ، التي استطاعت أن تصل إلي الكثير من الإنجاز الحضاري ،‌والنهوض ، من خلال ما تأصل في مجتمعها ،‌من قيم الحرية ، والعدل ،‌والديمقراطية ،‌وتجارب الخطأ‌والصواب ، دون أن تتمتع بما تتمتع به الأمة المسلمة ، من العواصم (‌عصمة الكتاب والسنة ، وعموم الأمة التي لا تجتمع على خطأ أو ضلال ) ؟ … فالخوف من الاجتهاد‌، باسم الخوف على الشريعة ،‌حالة‌مرضية غير سوية ، يخشى معها الوصول إلي تعطيل الشريعة ؟
إن معالجة أزمة العقل المسلم ، ونهوض المجتمع الإسلامي ، وتحقيق الشهود الحضاري ،‌مرهون إلي حد بعيد ، بإتاحة حرية الفقه والفكر ،‌وبدون ذلك ، فسوف نبقي نعالج العرض وندع السبب .

الوثيقة الستالينية :

وليس ما يوصف « بالوثيقة الستالينية‌» وهي البيان الذي وجهه جوزيف ستالين وفلاديمير لينين ، إلي مسلمي روسيا ، بعد أقل من شهرين من استيلائهم على السلطة عام 1917 م ، تحثهم على مواجهة القياصرة ، والثورة عليهم ، والثورة عليهم ، لأنهم أهدروا حقوق المسلمين ، والوعود التي قطعوها على أنفسهم ، ثم تنكروا لها ، فكان المسلمون أول الضحايا ، إلا أنموذجا آخر … وقد يكون من المفيد هنا أن نذكر ببعض نصوص الوثيقة ، لأنه تلقي أضواء كاشفة على أزمتنا المعاصرة :
« يا مسلمي روسيا … يا مسلمي الشرق … أيها الرفاق … أيها الإخوة …
« إن أحداثا عظيمة‌تحدث الآن في روسيا … إن العقد الدموي ( الحرب العالمية الأولى ) الذي بدأ بسبب أطماع الاستعماريين والإمبرياليين في أرضكم ، قد قارب النهاية …إن عالما جديدا يولد الآن … إن عهد الرأسمالين والإمبرياليين ، يتداعى … وأن الأرض تميد من تحت أرجلهم ، وتشتعل الثورة‌من تحت أقدامهم …
« وفي خضم هذه الأحداث العظام ، نلتفت إليكم يا مسلمي روسيا والشرق ، الذين استرقكم الاستعمار ، واستلب أموالكم ،‌وأراضيكم …
« يا مسلمي روسيا ، وياتتار الفولجا والقرم ، ويا أيها القرغيز ، وسكان سيبريا ، والتركستان … يا سكان القوقاز الأبطال ، وقبائل الشاشان ، وسكان الجبال الأشداء‌… أنتم يا من هدمت مساجدكم ، وحطمت معابدكم ، ومزق القياصرة الطغاة‌قرآنكم ، وحاربوا دينكم ، وأبادوا ثقافتكم ،‌وعاداتكم ،‌ولغاتكم …
« ثورا من أجل دينكم وقرآنكم ، وحريتكم في العبادة ! ! إننا هنا نعلن احترامنا لدينكم ، ومساجدكم … وإن عاداتكم ، وتقاليدكم ، حرة ، لا يمكن المساس بها … ابنوا حياتكم الحرة الكريمة المستقلة دون أن معوقات ، ولكم كل الحق في ذلك … واعلموا أن جميع حقوقكم الدينية والمدنية ، مصونة بقوة الثورة ، ورجالها ، والعمال ، والفلاحين ، والجنود ،‌وممثليهم …
« لهذا نطلب منكم تأييد الثورة‌، ومساندتها ، لأنها تقوم من أجلكم ،‌ومن أجل حريتكم الدينية والمدنية‌…
« … ليس من روسيا ، أيها المسلمون ، يأتي استعبادكم ، بل من الدول الأوروبية‌الاستعمارية … من هؤلاء اللصوص ، مصاصي الدماء ، الذين استعمروا أرضكم ، واستلبوا ثرواتكم ،‌وزجوا بأبنائكم في أتون حرب لا يأتيكم منها إلا الدمار … ثوروا ضد هؤلاء الطغاة الكفرة … تقدموا أيها المسلمون لتحرير أوطانكم ، وارفعوا أعلام ثورتكم ، فإن أعلامنا وبنودنا ، قد رفعت من أجل حرية المستعبدين والمظلومين .
« يا مسلمي روسيا ، ويا مسلمي الشرق : هلموا إلينا … إلي طريق الحرية والعدالة لنبني هذا العام من جديد على أسس الحق ، والخير ، والعدل…[6][2] » !!
وهذا ينطبق ، بشكل أو بآخر ، على ثورات ، وحركات ، وحروب المنطقة الإسلامية ، في مقدماته ونتائجه ،‌في آسيا وأفريقيا … ولا حاجة بنا إلي التفصيل ، لأنه معروف في كل بلاد العالم الإسلامي …
   dr. Sajid Sharif Atiya  سجاد الشمري 
sajidshamre@hotmail.com



[1][3] - أنظر ص 45 .
[2][4] - ابن قيم الجوزية : 691-751 هـ
شمس الدين أبو عبد الله محمد بن بكر بن أيوب بن سعد الزرعي الدمشقي الفقيه الحنبلي ، لازم الشيخ تقي الدين ابن تيمية وأخذ عنه ،‌كان ذا عبادة وتهجد ،‌وكان عارفا بالتفسير وأصول الدين ودقائق الاستنباط ، أو ذي وحبس مع شيخ الإسلام ابن تيمية ، ولم يفرج عنه إلا بعد موت الشيخ ، من تصانيفه : تهذيب سنن أبي داود وسفر الهجرتين ، والكلم الطيب ، وزاد المعاد أربعة مجلدات ، وكتاب نقد المنقول ،‌وكتاب اعلام الموقعين عن رب العالمين ثلاث مجلدات وغيرها .
[3][5] - أنظر ص 44
[4][6] - الشوكاني : 1173-1760هـ
محمد بن علي بن محمد بن عبد الله ، فقيه مجتهد ،‌من كبار علماء اليمن ، كان يرى تحريم التقليد له 114 مؤلفا ، منها نيل الأوطار ثماني مجلدات في الحديث ، وفتح القدير في التفسير ، وإرشاد الفحول في أصول الفقه ، والتحف في مذهب السلف .
[5][7] - ابن عاشور :‌-1393 هـ
محمد الطاهر بن عاشور رئيس المفتين المالكيين بتونس وشيخ جامع الزيتونة ، من أعضاء‌المجمعين العربيين في دمشق والقاهرة ، من أشهر مصنفاته :
مقاصد الشريعة الإسلامية ،‌أصول النظام الاجتماعي في الإسلام ، التحرير والتنوير ، في تفسير القرآن .
[6][2] - أعادت نشرها مجلة الجندي المسلم السعودية في العدد 48- يناير وفبراير 1988.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق