بسم الله الرحمن الرحيم
التوسل بالمخلوقين إلى
الخالق من أقبح العقائد
قرأت مقالكم "التوسل بالمخلوقين إلى الخالق من أقبح العقائد" والمنشور
في جريدة عكاظ بتاريخ 3 رجب .
ولي عليه بعض الملاحظات أرجو أن يتسع صدرك لها ألا تعلم أخي الكريم أن هذه
المسألة أي (التوسل) مسألة خلافية بين فقهاء المسلمين ... وحيث أنك لست فقيها فلماذا
تُقحم نفسك في هذا المجال وترد على فحول العلماء بهذا المقال !
ولكن حيث أنك طرقت الباب وجب علينا إجابتك، ولن ألزمك بأقوال علماء الشيعة
بل سآتي لك بأقوال علماؤك بل ممّن صح عندكم بل من أفعال الصحابة واللذين (حسب رأيكم)
أنهم خير القرون وأفضل من يفهم سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله.
*التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله*
ما من شك أن النبي محمد صلى الله عليه وآله أقرب إلى الله من الخلق طراً فله
عند الله جاه عظيم فالمسلمين يتوجهون إلى الله بهذا الجاه وبهذه المنزلة، تماماً كما
يفعل آحادنا عندما يريد مقابلة ملك أو رئيس فيذهب للوجهاء لكي يوسطهم بينه وبين طلب
من ذاك الملك. فلا أحد من العقلاء يستنكر عليه هذا الفعل.
وسوف أنقل للكاتب والقراء أفعال بعض الصحابة من توسلهم بالنبي صلى الله عليه
وآله بعد التحاقه بالرفيق الأعلى، وكما أسلفت أن الصحابي لاشك أنه أعرف بالسنة وبالأمور
العقلية منك أيها الكاتب العزيز .
أولا : التوسل به إلى الله في حياته
إن قيل لنا أن الله أقرب إلى العبد من حبل الوريد فلماذا يُتوسل به صلى الله
عليه وآله إلى الله، نقول (ومن باب الإلزام) أنه صح عندكم أن الصحابة كانوا يتوسلون
إلى الله بجاه النبي صلى الله عليه وآله فلماذا لم يتوجهون إلى الله مباشرة .
فقد أخرج الترمذي والنسائي وأحمد في مسنده "... عن عثمان بن حنيف، أن
رجلاً ضريراً أتى النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم فقال : يانبي الله، ادع الله أن
يعافيني، فقال : إن شئت أخرت ذلك، فهو أفضل لآخرتك، وإن شئت دعوت لك، قال: لا بل ادع
الله لي.
فأمره أن يتوضأ وأن يصلي ركعتين وأن يدعو الله بهذا الدعاء "اللهم إني
أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلى الله عليه (وآله) وسلم نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه
بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضي، وتشفعني فيه، وتشفعه في.
قال: فكان يقول هذا مراراً، ثم قال
: بعدُ: أحسب أنّ فيها: أن تشفعني فيه. قال : ففعل الرجل فبرأ". وقد صحح الألباني
هذا الحديث الوارد في الترمذي والنسائي وصحح شعيب الأرنؤوط ماورد في مسند أحمد.
ثانياً : التوسل به في مماته
وإذا قلت نعم إن التوسل أتى في حياته صلى الله عليه وآله، أقول لك إن الصحابي
عثمان بن حنيف فهم أن التوجه به حتى بعد مماته صلى الله عليه وآله .
كما أخرج ذلك الطبراني في المعجم الكبير " عن عثمان بن حنيف أن رجلاً
كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته،
فلقي ابن حنيف فشكى ذلك إليه، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضاة فتوضأ، ثم ائت المسجد
فصل ركعتين، ثم قل : اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد صلى الله عليه (وآله)
وسلم نبي الرحمة، يامحمد إني أتوجه بك إلى ربي فتقضي لي حاجتي وتذكر حاجتك، ...
فصنع الرجل ذلك، ثم أتى باب عثمان بن عفان فجاء البواب حتى أخذ بيده فأدخله
على عثمان بن عفان، فأجلسه معه على الطنفسة حُنيفاً، فقال حاجتك؟ فذكر حاجته وقضاها
له ...
ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان
بن حنيف فقال له : جزاك الله خيرا ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلي حتى كلمته فيّ،
فقال عثمان بن حنيف : والله ماكلمته، ولكني شهدت رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم
وأتاه ضرير ... (وذكر القصة السابقة). صححه الألباني في التوسل ص86.
وكذلك قصة العُتبي المشهورة والتي نقلها كثير من المفسرين والمؤرخين ولكم
القصة ...
عن العُتبي قال : كنت جالساً عند قبر النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم فجاء
عرابي فقال : السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول "ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم
جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما" وقد جئتك مستغفر
لذنبي مستشفعاً بك إلى ربي ثم أنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهن
القاع والأكمُ
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ...... فيه العفاف
وفيه الجود والكرمُ
ثم انصرف الأعرابي فغلبتني عيني، فرأيت النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم في
النوم فقال : ياعُتبي، الحق الأعرابي فبشره أن الله قد غفر له.
تفسير ابن كثير ، تفسير القرطبي ، قريب منه الدر المنثور، تفسير الثعالبي،
تفسير الوسيط، خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى ص45 ونقلها المؤلف عن ابن عساكر وابن
الجوزي في مثير العزم وابن النجار، تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام ص177، البداية
والنهاية ج12 ص185.
أخيراً : الكتب التي أُلفت في الرد على من يرى حرمة التوسل به صلى الله عليه
وآله وسلم. وأقوال بعض علماء السنة في ذلك :
1.الحافظ ابن الجوزي المتوفي 597 في كتاب (الوفاء في فضائل المصطفى) جعل فيه
بابين في المقام : باب التوسل بالنبي ، وباب الاستسقاء بقبره.
2. شمس الدين أبوعبدالله محمد بن النعمان المالكي المتوفي 673 في كتابه (مصباح
الظلام في المستغيثين بخير الأنام).
3. تقي الدين السبكي المتوفي 756 في (شفاء السقام في زيارة خير الأنام)
4. نور الدين السمهودي المتوفي 911 في (وفاء الوفاء)
5. الحافظ أبو العباس القسطلاني المتوفي 923 في كتابه (المواهب اللدنية)
6. أبوعبدالله الزرقاني المصري المالكي المتوفي 1122 (شرح المواهب)
7. الخالدي البغدادي المتوفي 1299 في (صلح الأخوان)
8. المحدث عبدالله بن محمد الصديق الغماري الحسني (إرغام المبتدع الغبي بجواز
التوسل بالنبي)
9. نقل المناوي في كتابه (فيض القدير) ج2 ص170، وكتاب (رد المحتار) ج27 ص5
...
عن الإمام الفقيه الحافظ تقي الدين السبكي أنه قال "ويحسن التوسل بالنبي
إلى ربه ولم ينكر ذلك أحد من السلف ولا من الخلف، حتى جاء ابن تيمية فأنكر ذلك وعدل
عن الصراط المستقيم وابتدع ما لم يقله عالم قبله وصار بين أهل الإسلام مثله انتهى.
بعد هذا كله يأتي كاتب صحفي يناقش الفقهاء فيما ذهبوا إليه !
المقال - جريدة عكاظ بتاريخ الثلاثاء 3 رجب 1431هـ
أصيب جار لنا في مكة المكرمة بنزيف في المخ نقل على إثره إلى مستشفى النور
حيث أجريت له عملية جراحية في الرأس وكتب الله لجارنا المصاب الشفاء، وخرج منه معافى
بعد أن أصبح هذا المستشفى بفضل الله من أفضل المستشفيات في المنطقة.
الشاهد أن جاري هذا ما لبث بعد خروجه من هذا المستشفي أن ذهب إلى بيت الله
الحرام يصلي ويحمد الله على نجاح هذه العملية الخطيرة، مع أن الله موجود في كل مكان
ولا يستلزم تقديم الحمد والمنة والشكر الذهاب إلى بيته الحرام. ولكن المشكلة التي حدثت
دفعتني إلى توضيح أمر في غاية الأهمية وذلك حينما رأيته يحزم أمتعته متوجها إلى المدينة
المنورة.
وعلمت منه أنه يريد أن يقدم الشكر والثناء والحمد أيضا للرسول عليه الصلاة
والسلام لأنه أثناء وجوده في المستشفى وقبل إجراء العملية أرسل أحد أبنائه إلى المدينة
ليقف على قبر الرسول عليه الصلاة والسلام ويدعو الرسول أن يكتب الله الشفاء لوالده،
ويقول إنه سمع من علماء في الأردن وسوريا ومصر أن التوسل بأصحاب القبور من الأنبياء
والمرسلين والصالحين أمر مباح، بل إنه مستحب والدعاء عندهم مستجاب.
وعجبت كل العجب من وجود أناس في أيامنا هذه لا يزالون يحملون بين طيات أنفسهم
مثل هذا السقط الوخيم من الاعتقاد الفاسد العقيم. ولو لم يكن في الشريعة ما ينهى عن
مثل هذا الهراء لوجب التنزه عنه بما يمليه العقل. مع أن الشريعة والحمد لله طافحة بالمناهي
عن مثل هذه الخزعبلات في العقائد.. فالأموات أيا كانوا لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا
ضرا فمن أين لهم أن ينفعوا غيرهم؟ فهم لا حيلة لهم لأنفسهم ناهيك عن أن تكون لهم حيلة
لغيرهم. وهذا أمر لا يحتاج إلى دليل ولا برهان ولا علم ولا علماء، إذ هو من العلم الضروري
الذي لا يخفى على عالم ولا جاهل. وليس الأنبياء في استثناء من هذا الحال.
ولذلك قال تعالى لنبيه محمد صلى الله
عليه وسلم: (إنك ميت وإنهم ميتون) ولو كان لأحد من الأنبياء بعد الموت ميزة في رفع
الضر أو جلب النفع لنفسه أو لغيره من الأحياء دون سائر الأموات لعلم ذلك بالضرورة.
فالشاهد أن الأنبياء والصالحين على ما جاءت به الآيات حالهم حال غيرهم من البشر في
خضوعهم لأحكام الموت من الانقطاع عن الدنيا ومتعلقاتها وتوقف الجسد عن مظاهر الحياة،
وأنهم بعد الموت لا يملكون لأنفسهم ـــ فضلا عن أن يملكوا لغيرهم ـــ نفعا ولاضرا.
وإذا كان هذا هو حالهم فما معنى التوسل بهم لرفع الضر وكشف البلاء؟، والذين
يأتون إلى قبور الأنبياء ويتوسلون بهم إلى ربهم لكشف الضر ورفع البلاء إنما انعقد في
قرارة أنفسهم أن هذا النبي مع أنه في قبره إلا أنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
فالمتوسل على هذا المعتقد الفاسد يخافت بدعائه للميت ويتوسل به عند قبره بل لا يكاد
يتلفظ بكلمة واحدة ليقينه واعتقاده الجازم الفاسد أن هذا المتوسل به قد علم خلجات نفسه
وعميق رغباته من غير إفصاح ولا كلام.
والعلم بما في نفوس الناس وما يختلج
في صدورهم إنما هو جزء من العلم المطلق اختص به رب العالمين كما قال تعالى: (يعلم خائنة
الأعين وما تخفي الصدور). والرسول عليه الصلاة والسلام لم يعلم الغيب أصلا في حياته
ومعيشته بين الناس فضلا عن أن يعلمه في مماته، ولقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم
نحوا من شهر كامل متحيرا في قصة الإفك. ولو كان يعلم الغيب لما وقع له هذا التحير والبلبلة
حتى أنزل الله ما أنزل من آيات في هذا الموضوع. وقد قال له سبحانه وتعالى: (قل لو كنت
أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء).
إلى غير ذلك من حشد من الآيات الدالة على أن علم الغيب إنما هو من خصوصيات
الألوهية. ولقد جعل الله توجه العباد له بالدعاء وتضرعهم إليه سببا لكشف الضر عنهم
ورفع البلاء، كما قال تعالى: (ادعوني استجب لكم). وقال تعالى: (أمن يجيب المضطر إذا
دعاه ويكشف السوء). فجعل سبحانه وتعالى دعاء العبد سببا لقضاء الحوائج ، حتى قال عليه
الصلاة والسلام: (ليسأل أحدكم ربه حتى شسع نعله إذا انقطع) بمعنى أن الأصل في هذا الأمر
أن يتوجه العبد إلى ربه في كل صغيرة وكبيرة مباشرة من غير واسطة ولا وسيلة.
فإذا انقطعت أسباب الدعاء من الأنبياء بموتهم فأي معنى يبقى للتوسل بهم وهم
في قبورهم؟، بل إن الأصل رفض التوسل بهم في حياتهم ناهيك عن التوسل بهم وهم في قبورهم.
وأما القول إن الأنبياء إنما هم أحياء في قبورهم ولذلك جاز التوسل بهم في حياتهم وبعد
موتهم فهذا قول ظاهر السقط والبطلان؛ لأنه في مصادمة مكشوفة مع العلم الضروري الذي
يعلمه العالم والجاهل من انقطاع أسباب الحياة بالموت للناس أجمعين، سواء كانوا أولياء
صالحين أو أنبياء ورسلا مقربين. وهو أيضا في مصادمة صريحة مع ما جاء في حشد من الآيات
الدالة دلالة قطعية على خضوع الأنبياء والمرسلين لأحكام الموت كما هي واقعة على غيرهم
من البشر. ولذلك لم يكن أحد من الصحابة يلجأ إلى قبر الرسول عليه الصلاة والسلام ويطلب
منه ما كان يطلبه في حياته من الدعاء .
بل لم يكن أحد من الصحابة يطلب منه
في حياته شيئا في خصائص أحوالهم من كشف الضر ورفع البلاء. ولقد كف بصر ابن عباس، وحوصر
عثمان بن عفان واستبيحت المدينة أيام الحرة ثلاثة أيام ونزل بها الكرب والبلاء، وطعن
ابن الخطاب ولم يكن بينه وبين القبر إلا أمتار؛ فهل توجه أحد من هؤلاء الصحابة إلى
قبر الرسول عليه الصلاة والسلام يتوسلون به في كشف هذا الضر ورفع هذا البلاء؟، ما فعل
أحد منهم ذلك في حياته ولا بعد موته لعلمهم ويقينهم أن الذي بيده مقاليد الأمور إنما
هو رب العزة والجلال كما قال تعالى: (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك
بخير فهو على كل شيء قدير).
إن حبنا لرسول الله عليه الصلاة والسلام أمر لا يشكك فيه أحد، فلن يكمل إيماننا
حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلينا من أموالنا وأولادنا بل وحتى من أنفسنا
التي بين جنبينا. طبت حيا وميتا يا سيدي يا رسول الله فقد أديت الأمانة ونصحت الأمة
وتركتنا على المحجة البيضاء، جزاك الله بخير ما جزى به نبيا عن أمته.
اللهم اجعلني في درعك الحصينة التي تجعل فيها من تريد اللهم لك الحمد وإليك
المشتكى وأنت المستعان.
dr. Sajid Sharif Atiya سجاد الشمري
sajidshamre@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق